لماذا هاجر النبي من مكة إلى المدينة؟
سؤال دائماً يراودنا لماذا هاجر النبي من مكة إلى المدينة؟ ولماذا أمر أصحابه من قبل بالهجرة مرتين إلى بلاد الحبشة؟ إن الإجابة التي نحفظها جميعاً فراراً من أذى الكفار ومن شدة بطش الكافرين والجاحدين فراراً بدين الله وبنور الله وبالإيمان بالله قد يكون هذا ينطبق على الهجرة الأولى إلى بلاد الحبشة لكن الهجرة الثانية إلى المدينة المنورة كان لها غاية أخرى وحكمة ثانية كبرى ومن أجلها تدبَّر وتروَّى سيدنا رسول الله قبل أن يختار الله له هذا المكان، لماذا هاجر إلى المدينة؟إنه كان يبحث عن مكان يقيم بين أهله وذويه مدينة فاضلة على العقيدة الحقة والأخلاق الصادقة والمعاملات الحسنة والعبادات الخالصة لله ويريد أن تكون هذه المدينة نموذجاً تحتذيه كل المدن والقرى الأرضية إذا أرادوا إصلاح أحوالهم وإذا أرادوا انتعاش تجارتهم وأموالهم وإذا أرادوا صلاح أخلاقهم وتهذيب نفوسهم وإذا أرادوا في الآخرة السعادة عند ربهم ولذا نقول لإخواننا أنه لا سعادة لمجتمعنا أو لأي قرية أو مدينة في بلادنا أو غير بلادنا إلا إذا طبقت من جديد الأسس والسجايا والقيم والأخلاق التي أرساها رسول الله في دار هجرته وقد عبر عن هذا الحال جعفر بن أبي طالب عندما طلبه النجاشي ملك الحبشة استجابة للشكوى التي تقدم بها عمرو بن العاص بالنيابة عن قريش لقد أرسلوه بالهداية إلى النجاشي وطلبوا منه أن يكلمه ليقبض عليهم ويردهم إلى السجون والتعذيب في مكة كما كانوا من قبل ولكن النجاشي كما وصفه الصادق الأمين{لا يظلم عنده أحدٌ، وأرضه أرض صدق } فلم يرضَ بالحجة بدون الأخرى فإن الدين القويم يحتم على كل مؤمن ألا يحكم على قضية من أول وهلة ومن أول شاكي بل لابد أن يسمع إلى المشكو لأنه ربما يكون مظلوماً ومعه الحق وقد قيل لسليمان عندما جاءته امرأة باكية وتدعي لها حقاً على ضرتها فقال من حوله: إنا نرى الحق لهذه قال: ولم؟ قالوا: لأنها تبكي. قال: ومن أدراكم بالثانية ربما تكون قد فقأت لها عيناً أو كسرت لها عضواً منعها من سرعة المجيئ فلا يجب على مسلم في قضية كبيرة أو صغيرة أن يحكم إلابعد أن يستمع إلى الإثنين الشاكي والمشكو حتى يتبين له وجه الحق وإذا كانوا يكذبون على سيد الخلق حتى قال النبى{إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ} يستطيع أن ينمق الكلام ويزخرف الكلام حتى يروق في عين السامعين ثم قال محذراً {فَأَقْضِي لَهُ عَلَىٰ نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ }[1]فطلب النجاشي جعفر ومن معه وقال لهم: اختاروا رجلاً يتحدث عنكم، فأشاروا إلى جعفر فقال: ما شأنكم؟ فقال(كنا قوماً في جاهلية نعبد الأوثان ونقطع الأرحام ونشرب الخمر ونفعل الفحشاء، ونكذب في الحديث حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه ونعرف صدقه دعانا إلى الإيمان بالله وإلى صدق الحديث وإلى صلة الأرحام وإلى حسن الجوار وإلى الوفاء بالعهد) وأخذ يعدد له فضائل الإسلام التي جاء من أجلها نبي الإسلام ما أردت أن أذكره في هذا الصدد: أن نبيكم الكريم جاء بهذه الأخلاق الكريمة والقيم العظيمة فوجد العرب في مكة لا يريدون أن يغيروا طباعهم، ولا أن يهذبوا أخلاقهم ولا أن يعدلوا أحوالهم فيصرون على شرب الخمور ويصرون على الزنا والفجور ويصرون على قطع الأرحام ويصرون على إيذاء الأيتام ويصرون على الجفاء بين الأنام ويصرون على هذه الخبائث، وهو يريد أن يصنع مجتمعاً للأنام فيه القيم الفاضلة والأخلاق الكريمة فكان ذلك سر هجرته إلى المدينة هاجر إلى المدينة عندما وجد في أهلها شوقاً إلى هذه الخصال، ورغبة في هذه الأخلاق، وحمية في نصرة هذه الشمائل والصفات، فهاجر إليهم فنشرها فيما بينهم فأصلح هذا المجتمع وهذا سر إصلاح أي مجتمع وله أسس ثلاثة ذكرها الله في قرآنه وجعلها دستوراً إلى أن ينتهي الزمان وأن ينتهي المكان ويرث الله الأرض ومن عليها دستور الإصلاح لأي مجتمع على البسيطة، ما هو يا رب؟{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}هذه القيم وهذه المبادئ وتحتها آلاف المبادئ الإيمانيةوآلاف القيم الإسلامية لكن هذه هي مجمل الآداب الإيمانية والإسلامية التي عليها صلاح الحال وصلاح الأفراد، وصلاح العباد، وصلاح البلاد، وصلح كل واد وناد فإن صلاح الكل بنشر المحبة، وديننا أيها الأحبة هو دين المحبة، فليس للبغضاء طريق في الإسلام وليست للكراهية طريق بين المؤمنين، وإنما أسس هذا الدين على الحب لله والحب لرسول الله والحب لكل من آمن بالله وحتى لو كان هذا الذي آمن بالله، أخطأ في حق نفسه أو أساء في حق ربه أو ارتكب محرماً، فإني لا أكرهه في ذاته لأن هذا ينافي دين الله ولكني أكره هذا الخلق الذي اتصف به وهذا العمل الذي قام به فإذا تركه فهو أخي وحبيبي في الله ورسوله وقد قيل لأبي الدرداء إن أخاك فلان وقع في إثم عظيم فهل تبغضه؟قال: لا وإنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي، ثم قال لهم ناصحاً: أرأيتم لو أن أخاً لكم وقع في بئر، ماذا كنتم فاعلين؟ قالوا: نأخذ بيده. قال: كذلك أخاكم إذا وقع في ذنب تأخذوا بيديه لتنقذوه من إبليس وجنوده إلى حزب الله وإلى دين الله وإلى أنصار الله وقد قال في ذلك رسولكم الكريم :أوثق عرى الإيمان لم يقل الصلاة ولم يقل الزكاة، ولا الصيام، ولا الحج مع أهميتهم البالغة عند الله ولكنه قال{أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ في الله}[2]إن الحب لله وفي الله أيها المسلمون هو المرهم الذي يداوي العاصي من المؤمنين، وهو الشفاء الذي يشفي به الله صدور الموحدين وهو الترياق الذي به يدخل كل مؤمن إلى رضوان رب العالمين من الذين يدخلون جنتك يا رب؟ ومن الذين ينالون رضوانك يوم القيامة يا رب؟ استمع إليه وهو يحدد صفاتهم ويبين سماتهم فيقول{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}الذي انتزع الغل والحقد والحسد والبغضاء والكراهية من قلوبهم لعباد الله المؤمنين هو يكره اليهود ويبغض الجاحدين ويحقد على الكافرين لكن لايجب على مؤمن أن يتصف بهذه الصفات بالنسبة للمؤمنين وإلا كان عمله كله - حتى لو ملأ البر والبحر عبادة - حابطاً هالكاً يوم لقاء رب العالمين فالإسلام هو الحب يا جماعة المؤمنين لأن الله عندما مدح الأنصار لم يمدحهم بالصلاة ولا بالزكاة ولا حتى بالشجاعة في ميدان القتال في سبيل الله وإنما أول صفة مدحهم بها وعليها الله {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}الحب ولذا أكد عليها النبي الكريم فقال{ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرا أَوْ لِيَسْكُتْ }[3] تلك آداب الإسلام وتلك تعاليم نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام فإن أبا بكر الصديق عندما بيَّن الله فضله وبيَّن النبي منزلته ومكانته عند الله، أخذ يتحدث أصحاب رسول الله فيما بينهم عن سرِّ حصوله على هذه المنزلة، وسرِّ علوه إلى هذه المكانة فبعضهم قال لقيامه الليل، وبعضهم قال لإكثاره من صيام النهار، وبعضهم قال لإكثاره من تلاوة القرآن، وبعضهم قال لتبتله بين يدي الواحد القهار، فخرج عليهم النبي المختار وهم على ذلك فقال{ما فضلكم أبا بكر بكثير الصلاة، ولا بكثير الصيام، ولكن بشئ وقر في صدره}[4] وما هو؟ هو الحب لله، والحب لرسول الله، والحب لعباد الله المؤمنين، حتى أنه عند انتقال رسول الله إلى الرفيق الأعلى، وقد اختاره لإمامة الصلاة، وقال لامرأة جاءت إليه في قضية ثم رجعت وقالت: إذا رجعت ولم أجدك فإلى من اتجه؟ قال: إلى أبي بكر، وأشار إليه إشارات صريحة لكنه لشدة الحب في قلبه كان يتدافع الإمامة، ويقدم عمر، ويقول عمر أولى مني، ثم يقدم أبا عبيدة ويقول أبا عبيدة أحق بهذا الأمر مني ويريد أن يعطيها لإخوانه حتى يظلوا أحباء فيما بينهم أوفياء لبعضهم لاتنفك المحبة عن صدورهم لأنه يعلم أن المحبة هي أساس الصفاء في مجتمع المؤمنين وهي أساس النقاء في علاقات المؤمنين وهي أساس قبول الأعمال عند رب العالمين قال النبى{ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، مَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لله وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُود فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ}[5]إن المرض الأول الذي استشرى في مجتمعنا وعكر علينا صفو حياتنا ليس الغلاء وليس قلة الرواتب وليس كثرة المشاغل والمصالح إنما المرض الأول هو الأثرة والأنانية التي جعلت كل منا يحب نفسه وفقط. أما أوصاف المؤمنين فهي{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}أصبح كل واحد منا يحب الخير لنفسه فقط، وإذا زاد قليلاً فلنفسه وولده، وبعد ذلك لا يتجاوز قيد أنملة لكن المؤمنين يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم اسمعوا معي إلى هذا الدواء النبوي، الذي يحل كل هذه المشاكل في لمسة حنان محمدية، ولمسة لطف رحمانية ربانية يقول فيه خير البرية {لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }[6] لو طبقنا هذا الدواء، لزالت جميع الأسقام والأدواء فأنا لا أحب أن يغتابني رجل فلماذا أغتاب غيري؟وأنا لا أفرح أن يسبني ابن أخي فلماذا أسمح لابني أن يسب أخي؟ وأنا لا أرضى لزوجة جاري أن تجاهر زوجتى بالسب والشتم فلماذا أرضى لزوجتي أن تجاهر جارتها بالسب والشتم؟وقد أنهرها ظاهراً أمام الناس وأشجعها بعد ذلك باطناً في الخلوة بعد اختفاء الناس أنا لا أرضى أن ينقل جاري حد الأرض ويأتي به علي فكيف أنقل الحد في أرض جاري أنا لا أرضى أن تنزل بهيمة جاري وتقضي على زرعي، فلماذا أرضى أن تنزل بهيمتي وتقضي على زرع جاري؟وغيرها وغيرها فالمؤمن يحب لجاره ما يحب لنفسه، ويرضى لجاره ما يرضاه لنفسه وقد جعل الإسلام الجيران ثلاثة: جاراً له حقوق ثلاثة وهو الجار المؤمن القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة، والجار البعيد المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، والجار اليهودي والنصراني فله حق الجوار، وحق الجوار في شأنه كبير والذي يطالب بالحقوق ملك الملوك فهذا نبيكم كان جاره يهودياً وهو القائد والحاكم ويستطيع بإشارة أن يجعله يترك داره، ويهجرها إلى مكان آخر لكنه لا يروِّع أحد – فالمسلمون لا يغصبون أرض أحد، فعندما أخذ عمرو بن العاص أرض يهودية وضمها إلى مسجده الذي تعلمون واشتكت إلى عمر بن الخطاب أمر أن يرد الأرض إلى صاحبتها لأنه لا يجوز للمسلم أن يتعبد على أرض مغصوبة من أهلها -فتركه في جواره ولكنه زاد في إيذائه فكان يجمع العذرات ويضعها على بابه قبل كل صباح فيخرج رسول الله ويزيلها بتؤدة وأناة، ويطهر المكان ويغسل الباب من الأذى ولا يقول شيئاً فخرج يوماً ولم يجد أثراً فسأل عن اليهودي فقيل:أنه مريض فقال: وجبت زيارته لأنه جارٌ فذهب إليه وزاره، وقال: لقد عودتنا على عادة فلما لم نرها سألنا عنك، فقالوا: مريض فقلنا: حق علينا زيارتك، فكانت النتيجة أنه أسلم لله عندما وجد هذه الشمائل المحمدية والأخلاق الربانية في النبى فدين الإسلام يا إخواني يجعل المؤمن غير كامل الإيمان إلا إذا كان يحب الخير لإخوانه المؤمنين أكثر من نفسه. أما بقية الصفات التي تحدث عنها الله، فلها وقت آخر ولكن أقرءوها وتدبروها وعوها واعملوا بها واحفظوها في قلوبكم{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}http://www.fawzyabuzeid.com/news_d.php?id=175
[1] رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما والإمام مالك في الموطأ.
[2] رواه أحمد والبيهقي عن البراء بن عامر والطيالسي، الطبراني في الكبير عن ابن عباس.
[3] رواه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه عن أبي هريرة.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان أبو يعلى في مسنده، أحمد في مسنده والداري في سننه عن أنس.
[5] رواه البخارى ومسلم عن أنس [6] رواه أحمد عن أنس بن مالك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق