التصوف
جناية المصطحات على الحقائق والغايات:
إن للمصطلحات والأسماء الشائعة بين
الناس للأشياء جناية على الحقائق، فإنها تولد كائناً آخر، تنشأ عنه الشبهات، وتشتد
حوله الخصومات، وتتكون فيه المذاهب، وتستخدم لها الحجج والدلائل، فلو عدلنا عن هذه
المصطلحات المحدثة، وعن هذه الأسماء العرفية، ورجعنا إلى الماضي وإلى الكلمات التي
يعبر بها الناس عن هذه الحقائق في سهولة وبساطة، وإلى ما كان ينطق به رجال العهد
الأول والسلف الأقدمون، انحلت العقدة وهان الخطب واصطلح الناس.
ومن هذه المصطلحات والأسماء العرفية
التي شاعت بين الناس "التصوف" ، ومن هنا ثارت أسئلة وبحوث، وتساءل
الناس: مامدلول الكلمة وما مأخذها؟ هل هو من الصوف أو من الصفاء أو الصفو؟ أو هي
مأخوذة من الكلمة اليونانية صوفيا التي معناها الحكمة؟
ومتى حدثت هذه الكلمة؟ لم نعرف لها
أثراً في الكتاب والسنة، وما جاءت في كلام الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان،
وما عرفت في خبر القرن الأول، وكل ما كان هذا شأنه فإنه من البدع المحدثة، وقد
حميت المعركة بين أصدقائه وخصومه، والموافقين والمعارضين، حتى تكونت بذلك مكتبة
كبيرة يصعب استعراضها.
أما إذا عدلنا عن هذا المصطلح الذي
نشأ وشاع في القرن الثاني، ورجعنا إلى الكتاب والسنة وعصر الصحابة والتابعين،
وتأملنا في القرآن والحديث، وجدنا القرآن ينوه بشعبة من شعب الدين، ومهمة من مهمات
النبوة يعبر عنها بلفظ "التزكية"، ويذكرها كركن من الأركان الأربعة التي
بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيقها وتكميلها: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتنا
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} وهي تزكية النفوس وتهذيبها، وتحليتها بالفضائل، وتخليتها من
الرذائل، التزكية التي نرى أمثلتها الرائعة في حياة الصحابة رضوان الله عليهم
وإخلاصهم وأخلاقهم، والتي كانت نتيجتها ذلك المجتمع الصالح الفاضل المثالي، الذي
ليس له نظير في التاريخ، وتلك الحكومة العادلة الراشدة التي لا مثيل لها في
العالم.
ووجدنا لسان النبوة يلهج بدرجة هي فوق
درجة الإسلام والإيمان، ويعبر عنها بلفظ "الإحسان" ومعناها كيفية من
اليقين والاستحضار، يجب أن يعمل لها العاملون ويتنافس فيها المتنافسون، فيُسأل الرسول
صلى الله عليه وسلم: ما الإحسان؟ فيقول: "أن
تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكون تراه فإنه يراك."
ووجدنا الشريعة وما أثر عن الرسول صلى
الله عليه وسلم من الأقوال والأحوال، ينقسم بين قسمين: أ- أفعال وهيئات، كقيام
وقعود وركوع وسجود وأحكام ومناسك، تكفل بها الحديث رواية وتدويناً، والفقه
استخراجاً واستنباطاً، ب- وقسم آخر هو كيفيات باطنية كانت تصاحب هذه الأفعال
والهيئات عند الأداء، وتلازم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مكان وفعل، هي
الإخلاص والاحتساب، والصبر والتوكل، والزهد وغنى القلب، والإيثار والسخاء، والأدب
والحياء، والخشوع في الصلاة والتضرع، والشوق إلى لقاء الله، إلى غير ذلك من كيفيات
باطنية وأخلاق إيمانية هي من الشريعة بمنزلة الروح من الجسد، وتندرج تحت هذه
العناوين تفاصيل وجزئيات وآداب وأحكام، تجعل منها علماً مستقلاً، يمكن أن نسميه
فقه الباطن، أو علم التزكية، الذي يهدف إلى الوصول لكمال الإيمان، والحصول على
درجة الإحسان، ولو سمي كذلك لانحسم الخلاف وزال الشقاق، وتصالح الفريقان اللذان
فرق بينهما المصطلح، فالتزكية والإحسان وفقه الباطن حقائق شرعية علمية، ومفاهيم
دينية ثابتة من الكتاب والسنة، يقر بها المسلمون جميعاً، ولو ترك المتصوفون
الإلحاح على منهاج عملي خاص للوصول إلى هذه الغاية التي نعبر عنها بالتزكية أو الإحسان
أو فقه الباطن -فالمناهج تتغير وتتطور بحسب الزمان والمكان، وطبائع الأجيال
والظروف المحيطة بها- وألحوا على الغاية دون الوسيلة، لم يختلف في هذه القضية
اثنان، ولم ينتطح فيها عنزان، ولخضع الجميع وأقروا بوجود شعبة من الدين، وركن من
أركان الإسلام هي التزكية والإحسان، فلا كمال للدين، ولاصلاح للحياة الاجتماعية،
ولا لذة –بالمعنى الحقيقي- في الحياة الفردية إلا بتحقق هذه الشعبة في الحياة.
الجناية على التصوف
1- جناية المصطلح:
ومن هنا كانت جناية هذا المصطلح
"التصوف" على هذه الحقيقة الدينية الناصعة عظيمة، فقد حجبتها عن أنظار
كثيرة، وصدت فريقاً كبيراً من الناس عن سبيلها، والحرص على تحصيلها، وإن كان ذلك
لأسباب تاريخية يطول ذكرها، وليس لنا الآن إلا أن نقرر الحقيقة، ونتحرر من القيود
والمصطلحات، ومن النزعات والتعصبات، ولا نفر من حقيقة دينية، يقررها الشرع، ويدعو
إليها الكتاب والسنة، وتشتد إليها حاجة المجتمع والفرد لأجل مصطلح محدث، أو اسم
طارئ دخيل.
2- جناية الدجالين
والمحترفين، وجناية المقلدين والمخلطين:
ثم جنى على هذه الحقيقة الدينية شيء
آخر، وهو أنه دخل فيها دجالون ومحترفون، وباطنيون وملحدون، اتخذوها وسيلة لتحريف
الدين، وإضلال المسلمين، وإفساد المجتمع ونشر الإباحية، وتزعموا هذا الفن وحملوا لواءه،
فكان ذلك ضغثاً على إبّالة، وزهد فيه ونفر منه أهل الغيرة الدينية، والمحافظون على
الشريعة الإسلامية، وطائفة أخرى من غير المحققين لم يعرفوا روح هذه الشعبة
وغايتها، ولم يميزوا بين الغاية والوسائل فخلطوا بينها، وألحوا على الوسائل أحياناً،
وضيعوا الغاية، أو أدخلوا ما ليس من هذا الفن في صميم هذا الفن وصلبه، وعدوه من
الكمالات، ومن الغايات المطلوبة، وعقّدوا المسألة وطولوها، وجعلوا الشيء الذي يكلف
به كل مسلم والذي هو لب الدين وحاجة الحياة لغزاً وفلسفة ورهبانية لا يجرؤ عليها
ولا يطمع فيها إلا من نفض يده من أسباب الحياة ورفض الدنيا وما بها، ولا شك أن
أولئك قليل من قليل في كل عصر وجيل، وليست هذه دعوة الدين ولا أسوة الرسول ولا
حكمة الخلق.
(إضافة إلى من خلط الفلسفات الإلحادية
بهذا الفن، واستعمل الرموز والكلام الغامض ليلبس على الناس دينهم، كأصحاب فلسفات
وحدة الوجود، أو الحلول أو الاتحاد. )
الراسخون في العلم والإيمان، وبعض مواقفهم ومآثرهم:
ولكن الله قيض للمسلمين في كل عصر
وجيل، من ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين،
ويدعون إلى التزكية الخالصة من شوائب العجمة والفلسفة، وإلى الإحسان وفقه الباطن
من غير تحريف وانتحال وتأويل، ويجددون هذا الطلب النبوي لكل عصر، وينفخون في الأمة
روحاً جديدة من الإيمان والإحسان، ويجددون صلة القلوب بالله، والأجسام بالأرواح،
والمجتمع بالأخلاق، والعلماء بالربانية، ويوجدون في الجمهور قوة مقاومة الشهوات
وفتنة المال والولد، وزينة الحياة الدنيا، وفي الخواص قوة مقاومة صلات الملوك
وسياطهم ووعدهم ووعيدهم، والجرأة على الجهر بالحق عند السلطان الجائر، والاستهانة
بالمظاهر والزخارف، والقناعة باليسير، فيستطيع أحدهم أن يقول وقد طلب منه أن يقبل
يد السلطان ليرضى عنه: "يا مسكين، والله ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً عن أن
أقبل يده، يا قوم! أنتم في واد وأنا في واد."
ولاشك أنه لولا هؤلاء –أصحاب النفوس
المزكاة، الذين وصلوا إلى درجة الإحسان وفقه الباطن- لانهار المجتمع الإسلامي
إيماناً وروحانية، وابتلعت موجة المادية الطاغية العاتية، البقية الباقية من إيمان
الأمة وتماسكها، وضعفت صلة القلوب بالله، والحياة بالروح، والمجتمع بالأخلاق، وفقد
الإخلاص والاحتساب، وانتشرت الأمراض الباطنية، واعتلت القلوب والنفوس، وتكالب الناس
على حطام الدنيا، وتنافس أهل العلم في الجاه والمال والمناصب، وغلب عليهم الطمع
والطموح، وتعطلت شعبة من أهم شعب النبوة، وهي تزكية النفوس، والدعوة إلى الإحسان
وفقه الباطن.
(وقد كان من هؤلاء: الإمام الجنيد،
وبشر الحافي، والإمام عبد القادر الجيلاني، وجلال الدين الرومي، ومن القادة المجاهدين الصوفيين: الشيخ أحمد
السرهندي، والأمير عبد القادر الجزائري، والشيخ غازي محمد، والشيخ شامل، والشيخ
أحمد الشريف السنوسي، الذي كان من ثمار دعوته المجاهد البطل عبد القادر الجزائري، ومجددو
الإسلام في الهند، وناشرو الإسلام بين المغول، وفي جنوب شرق آسيا حيث ماليزيا
وأندونيسيا والفلبين.. كل هؤلاء كانوا من أعلام الصوفية الحقة المنضبطة بضوابط
الشريعة.)
(من كتاب ربانية لا رهبانية
لأبي الحسن الندوي باختصار وتصرف)
وإذن فإن علينا أن نميز بين الصوفية الصافية النقية، التي تهتم
بتزكية الأنفس وتهذيب الأخلاق، وتلتزم بشرع الله وسنة رسوله، وبين الانحرافات التي
طرأت على بعض المنتسبين لها، والفلسفات الدخيلة التي أقحمت فيها، فلا نعمم، وننبذ
تياراً من أهم التيارات الإسلامية، من أجل انحرافات ابتدعها بعض المنتسبين إليه،
بل علينا أن نقبل الطيب وننتفع به، وننبذ الخبيث ونحذر منه.
فإذا كان شيخ
الإسلام ابن تيمية المعروف بشدته على الصوفية، ودحضه لمبادئ كثير منهم، ومناظرته لفرقهم.... كان في الحقيقة ،
شأنه شأن كل
عالم جليل متبحر في العلم، يقف موقف الإنصاف، فيميز بين الطالح والصالح من
الصوفية، ويشيد بأعلامهم من الصالحين، بل ويستشهد بأقوالهم في كتبه ومؤلفاته، فما
بال المتأخرين من أتباعه لا يقبلون حتى بموقفه المتوسط، بل يتطرفون في
اشتدادهم على الصوفية، ونسبتها للفرق المنحرفة عن الإسلام، ويعتبرون وصف أي شخص بأنه
صوفي، تهمة تسقط عدالته وشخصه من أعين الناس... وهذا ما نراه في بعض
البلدان، إذ ما إن تروج إشاعة عن شخص بأنه صوفي، حتى يصبح التعامل معه كأنه يهودي أو
ملحد... وحسبنا الله ونعم الوكيل.. مع أن الوصف بكلمة "صوفي" كانت من
الأوصاف التي يمتدح بها رجال العلم في كتب
الطبقات، وتشير إلى زهدهم وأخلاقياتهم وسمو
أرواحهم، فيقال
فلان الفقيه الصوفي العالم الإمام الحافظ.. إلخ
حتى قال الشافعي رحمه الله في ديوانه:
فقيهاً وصوفياً فكن ليس واحداً............................ فإني وحق الله إياك أنصح
فذلك قاس، لم يذق قلبه تقى............................ وهذا جهول، كيف ذو الجهل يصلح
وإذا ناقشتهم وقلت لهم إن شيخ الإسلام،
وتلميذه ابن القيم، كانا يفرقان بين أنواع الصوفية، قالوا لك كان هذا في زمن شيخ الإسلام،
أما اليوم فقد زاد انحراف الصوفية ولم يبق منهم إلا الفاسدون... وهكذا يدرسون
في كتب العقائد والفرق التي عندهم...
وهؤلاء لا يميزون بين الصوفية من أهل الشريعة الذين يقولون أن "الاستقامة هي عين الكرامة"، ويهتمون بتنمية الجانب الروحاني وتهذيب الأنفس وتزكية الأخلاق، وبين المنحرفين من الصوفية الذين يتبعون البدع لجهلهم بالشريعة، ويعتقدون في مشايخهم العصمة والكمال وعلم الغيب وتصريف الأمور بزعم أن هذا من كرامات الله تعالى لهم، وبين نوع ثالث من الصوفية هم الصوفية المتفلسفة الذين أدخلوا الفلسفات الوثنية للأمم السابقة، وانحرافاتهم العقائدية وخلطوها بعقائد الإسلام، وخرجوا لنا بعقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التي لا شك في ضلالها وكفرها.
وهؤلاء لا يميزون بين الصوفية من أهل الشريعة الذين يقولون أن "الاستقامة هي عين الكرامة"، ويهتمون بتنمية الجانب الروحاني وتهذيب الأنفس وتزكية الأخلاق، وبين المنحرفين من الصوفية الذين يتبعون البدع لجهلهم بالشريعة، ويعتقدون في مشايخهم العصمة والكمال وعلم الغيب وتصريف الأمور بزعم أن هذا من كرامات الله تعالى لهم، وبين نوع ثالث من الصوفية هم الصوفية المتفلسفة الذين أدخلوا الفلسفات الوثنية للأمم السابقة، وانحرافاتهم العقائدية وخلطوها بعقائد الإسلام، وخرجوا لنا بعقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التي لا شك في ضلالها وكفرها.
وبهذا، فعند هؤلاء المتشددين، ما إن يكون الإنسان محباً للنبي صلى الله عليه وسلم، لا يذكره وصحابته الكرام إلا بلفظ سيدنا وأسيادنا، ويكون له ميل لحضور المولد النبوي مثلاً، أو له اهتمام بالذكر الفردي أو الجماعي، حتى يصمونه بأنه صوفي، وتتسلسل في عقولهم جميع معاني الصوفية التي ذكرناها، فيصبح ذلك الشخص -وإن كان من كبار علماء السنة أو دعاتها المخلصين، أو من كبار رجالات الإسلام في التاريخ- يصبح في نظرهم مع المبتدعين المنحرفين الذين يعتقدون بوحدة الوجود، وبأن الولي يتصرف في الكون، إلى آخر هذه الخرافات..
فلننظر إلى تصنيف شيخ الإسلام ابن تيمية للصوفية:.. لقد صنفهم في كتابه (الصوفية والفقراء) إلى 3 أقسام:
(1- صوفية الحقائق: وهم مجتهدون في طاعة الله تعالى كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله...
2- صوفية الأرزاق: وهم الذين وقفت عليهم الأوقاف كالخوانك، فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق، فإن هذا عزيز، وأكبر أهل الحقائق لا يتصدون بلوازم الخوانك، ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط، وهي وجود العدالة الشرعية فيهم، والتأدب بآداب الشرع، وألا يكون متمسكا بفضول الدنيا.
3- صوفية الرسم: فهم المقتصرون على النسبة، فهمهم في اللباس والآداب الوصفية ونحو ذلك(.
أي أنهم يتشبهون بالصوفية
في الظاهر، ويعرفون أقوالهم، ولكنهم خارجون عن طريقهم، همهم جمع الأموال والاحتيال
على الجهال بأمرهم.
وهذا التقسيم من أعدل ما قيل فيهم، فهو وسط بين من يغالي في الصوفية ويرفعهم فوق منزلتهم، ويلتمس العذر حتى لانحرافاتهم أو للمنحرفين منهم، وبين من يتشدد فيلقي الاتهامات جزافاً دون تحقق ولا تمحيص.. وقد أمرنا الله تعالى إذا حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل..
ولا بد لنا هنا من
أن نشير إلى الفلسفات الكفرية التي ألحقت بالصوفية ظلما وعدوانا، لتنبيه المغرورين
بها أيضا من مزالقها الخطرة، ولنذكر دوما أن ميزاننا في قبول أي أمر ليس قال شيخي،
وقال فلان، والكرامات التي جرت على يد علان، بل الميزان دوما هو شرع الله المتمثل
في كتابه الحكيم، وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
وحدة الوجود:
هي فلسفة تعتبر
أن الوجود كله هو موجود واحد وهو الله عز وجل، وكل المخلوقات هي أجزاء من هذا الموجود،
فهي بنفسها الله تعالى، فلا انفصال بين الخالق والمخلوق، ووجود الكائنات هو عين
وجود الله، وفي هذه الفلسفة ما فيها من
خبل وتخليط.. فهي تدعي ألا موجود سوى الله، وتزعم أن
هذا كمال التوحيد: أن توحد الموجود ولا ترى غيره في الوجود.. وهي فكرة هندية بوذية
مجوسية. وأصحاب هذا المبدأ بعضهم يرى أن
الله –سبحانه وتعالى- روح والعالم جسم لذلك الروح، فإذا سما الإنسان وتطهر التصق
بالروح، أي الله، وبعضهم يرى أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها، فكل شيء في
زعمهم هو الله تجلى فيه، فيقول قائلهم:
نظرت فلم أبصر سوى
محض وحدة بغير شريك قد
تغطت بكثرةِ
تكثرت الأشياء
والكل واحد صفات
وذات ضُمِّنا في هويةِ
فأنت أنا، لا بل أنا
أنت وحدة منزهة
عن كل غير وشركةِ
فلسفة الحلول والاتحاد:
فلسفة أخرى ضالة مبنية على أن الله
تعالى يمكن أن يحل في مخلوقاته، ويتحد بها، وبهذا أيضا تكون المخلوقات
والموجودات هي الله تعالى، وترى أن كمال العبادة والمحبة توصل لمرحلة الفناء
فيتحرر المرء من ذاته ويحل الله فيه، فيصبح عبداً ربانياً هو الله والله هو، وتسقط عنه
عندها التكاليف، وهذا أيضا من التخليط والخبط والتمويه على الناس.
يقول أحدهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا
بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته
أبصرتنا
والعياذ بالله من الضلال بعد الهدى.
والقائلون بالحلول منهم من قصر الحلول
وخصه ببعض الناس، كقول النصارى بالحلول في عيسى عليه السلام، وقول الفرق المنحرفة
بحلول الله تعالى في الولي الصالح، أو إمامهم المعصوم، ومنهم من قال بالحلول
العام، وأن الله حال في كل شيء، وأنه في كل مكان، وهؤلاء تأثروا بالفلسفة الطبيعية
عند اليونان.
هذا مختصر، ولمن
أراد التوسع يمكنه مراجعة كتب القوم، ولا أنصح بها، فقد قرأت فصوص الحكم لمحيي الدين
بن عربي، واشمأزت نفسي مما فيه، رغم محاولات الكاتب تبرير الأقوال وتفسيرها،
لكن ما فيها كفر بواح لا يمكن التماس أي عذر له، اللهم إلا أن نقول أنه مدسوس على
الشيخ ابن عربي وأنه لم يقل به، التماساً للعذر له، كون كثير من الشيوخ وعلماء عصره
كان يعتقد بصلاحه، وعلى أية حال فقد صار بين يدي باريه، وأفضى لما قدم، فلا شأن
لنا به شخصياً، لكن كتبه يجب التحذير مما فيها دون شك... وتجنب قراءتها لمن لم
تتمكن العقيدة الصحيحة من قلبه..
والصواب أن كمال الصلة بالله تعالى يؤدي لكمال العبودية، أي كمال اتباع الشريعة، والفناء في الله يعني أن تتحرر من رغباتك وشهواتك ويصبح هواك تبعا للشريعة، فلا يصبح في قلبك غير الله، لا أن يحل الله تعالى بك...
وكان شيوخ الصوفية الحقة دوماً يقولون: إن الاستقامة هي عين الكرامة..
وانظر إلى ما نقله ابن تيمية عن أحد كبار الصوفية المشهورين:
يقول ابن تيمية وهو
يحكي قصته ومحنته مع فرقة الأحمدية:
وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي،
وذكرت عن يونس بن
عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما
قال صاحبنا، يعني الليث بن سعد ؟ قال: لو رأيت
صاحب هوى يمشي
على الماء فلا تغتر به. فقال الشافعي: لقد قصر الليث
لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به. (من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في مناظرته مع الأحمدية)
ومن الانحرافات
التي تقرب من ذلك أيضاً اعتقاد العصمة في الأولياء الصوفية، وأنهم يصلون لمراتب
تسيير شؤون الكون، وما عُرفت هذه المرتبة لنبي حتى يبلغها ولي، فكأنهم بجهلهم
وتطاولهم يزعمون أن الأولياء أعلى رتبة من الأنبياء، وهم إضافة إلى ذلك يشتغلون
بعبادات مبتدعة، وأدعية غريبة مفتعلة، ينفر منها الحس السليم، ولا يفهمها العقل
الصحيح... من ذلك مثلاً ما ورد عن أدعية بعض الطرق:
" اللهم صل وسلم على عين
الرحمة الربانية، والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز المفهوم والمعاني، ونور الأكوان
المتكونة الآدمي، صاحب الحق الرباني، البرق الأسطع بمزون الأرياح المالئة لكل
متعرض من البحور والأواني، اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروس
الحقائق، عين المعارف الأقوم، صراطك التام الأسقم، إحاطة النور المطلسم"
!!!
"اللهم صل وسلم على عين
ذاتك العلية، عبدك القائم بك منك لك إليك، بأتم الصلوات الزكية، المصلي في
محراب عين هاء الهوية، فصل اللهم عليه صلاة كاملة تامة بك منك وإليك وعليك، وتب
علينا بمحض فضلك الكريم في الصلاة عليه"
ومن تلك الانحرافات
أيضا ذكرهم كرامات عجيبة للأولياء، تجعلهم يرتكبون فواحش ومنكرات، لكنهم في
الحقيقة – كما يزعمون- يسترون بها صلاحهم، فمن شك فيهم أو لامهم لتقصيرهم أو
فواحشهم أو تركهم فروض ربهم، باء بالخيبة والخسران والعقوبة من الله عز وجل
لتطاوله ظاهراً أو باطناً على هذا الولي، ويسمون هؤلاء بالملامتية، ولهم قصص عجيبة ينفر منها
المرء، وتُبين أن من يعيش في هذا الخلط لن يبقى له دين، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن
منكر، إذ ما يدريه لعل كل فاجر عاهر تارك لصلاته هو ولي لا يجوز توبيخه...
من ذلك مثلاً:
قولهم عن أحد
الأولياء المزعومين: "كان
أصله جمّالا عند بعض الأمراء، ثم حصل له الجذب، وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين
ينكرون عليه، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوق، أعتقني
ربي، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال، وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش،
فوجدوها حلاوة، وكان الله قد أعطاه التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه
الدار"
" ومنهم سيدي بركات الخياط
رضي الله عنه من الملامتية، أخبرني الشيخ عبد الواحد رضي الله عنه، أحد جماعة سيدي
أبي السعود الجارحي رضي الله عنه، قال: مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ، مفتي
الجامع الأزهر، وجماعة، فقالوا: امضوا بنا نزوره، وكان يوم جمعة، فسلم المؤذن على
المنارة، قالوا له: نصلي الجمعة؟ فقال: مالي عادة بذلك، فأنكروا عليه فقال: نصلي
اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر منها، ثم
وقع في مشخة حمير، ففارقوه، وصاروا يوبخون الشيخ الذي جاء بهم إلى هذا الرجل، وصار
الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول: أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم؟ لا يعود لك
بالعادة أبداً.... وله وقائع مشهورة رضي الله عنه"
ومنهم من يزعمون
عنه أنه ما خرج من داره أبداً لا لمسجد ولا لغيره ثم اكتشفوا أنه يصلي كل يوم في
مكة، أويشرب الخمر فإذا بها ليست خمراً، وغير ذلك من تخاريف..
تؤدي إلى تعطيل
الشريعة، وتحويل الدين إلى ألعوبة تتلاعب بها الأهواء، لا ضابط لها ولا ميزان..
وبالطبع هذه المظاهر المنحرفة الضالة
المنسوبة للصوفية ليست هي مقصدنا عندما ندافع عن الصوفية، ونطالب بتمييز الصحيح
منها وهو الأصل وهو الغالب، عن الفاسد وهو هذه الانحرافات التي لا ينساق إليها إلا
الجهلة أو طالبو الجاه والمنافع الدنيوية القريبة، فنحن نطالب بالصوفية من
حيث هي اهتمام بتزكية الأنفس، والرقي في مدارج القرب من الله تعالى، كتلك
التي نادى بها الإمام أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين، أو ربى عليها الشيخ عبد
القادر الجيلاني تلاميذه، أو أسس عليها
الإمام السنوسي دعوته الجهادية...
وقد قابلت بفضل الله ورحمته بعض
النماذج المشرفة للصوفية، فكنت أدهش لشدة تمسكهم بالشريعة، ودقتهم في محاسبة
النفوس، والمحافظة على الستر وغض البصر، وطاعة الزوج وبر الوالدين والصلاة على
وقتها، وحسن المعاملة، والصبر وتحمل الأذى، والجهر بالحق، والسخاء في العطاء، وحسن
التوكل على الله، وكمال الثقة أنه وحده الرازق المعطي المانع، مع عدم ترك الأخذ
بالأسباب، وكان مما سمعته منهم:
لِمَ تسألون عبداً فقيراً، وتنسون رباً
قديراً؟
فكما أود من إخوتنا السلفية الاعتدال في نظرتهم للصوفية، والتمييز بين المنتسبين لها ظلماً وزوراً، وبين من يرونها طريقة في تهذيب الأنفس وتزكية الأخلاق، وسعياً للوصول نحو مرتبة الإحسان. أود كذلك لو أن المعتدلين من الصوفية يمحصون مذهبهم، وينقونه مما فيه من الشوائب، ويُدينون بوضوح وجهرة وجلاء المظاهر المنحرفة للتصوف أو عن التصوف الصحيح، ولا يحاولون تأويلها والتماس الأعذار لأصحابها، لو فعلوا ذلك فلربما خطونا خطوات واسعة نحو ردم الهوة التي تفرق شبابنا وشعوبنا.
وأحب هنا أن أستشهد بمقالين
مهمين، لعلمين من أعلام الدعوة الإسلامية المعاصرة، الأول للشيخ سعيد حوى،
والثاني للشيخ محمد الغزالي، جزاهما الله عن المسلمين خيراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق