الحمد لله رب العالمين .. أكرم عباده المؤمنين بإرسال سيِّد المرسلين رحمةً عظمى لنا وللخلق أجمعين، جَمَّله الله عزَّ وجلَّ بأوصافه، وخلَّقه بأخلاقه، وجعله رحمةً مهداة، ونعمةً مُسْدَاة، رءوفاً ورحيماً بالمؤمنين في الدنيا، وشفيعاً للخلق أجمعين، وخاصة المذنبين يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يحدُّه حدّ، ولا يحيط به أحد. ليس له مكانٌ يحيط به، ولا زمانٌ يختص به، لأنه خلق الزمان وخلق المكان، وهو عزَّ وجلَّ تعالى عن الزمان، وتعالى عن المكان والإمكان، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (11الشورى).
وأشهد أن سيدنا محمدًا عَبْدُ الله ورسولُه، اختاره الله عزَّ وجلَّ لشريعته، وأمره بإبلاغ رسالته، ووعد مَنْ أطاعه واتَّبع هُداه بدخول جنته، وتوعَّد مَنْ عصاه وخالف هديه بالخلود في دار شقوته الله. صلَّى وسلم وبارك على سيدنا محمد خير النبيِّين، وإمام المرسلين، الفاتح لفضل الله، والخاتم لتشريعات الله، والقائم بحمل لواء الحمد والشفاعة يوم لقاء الله. صلَّى الله عليه وعلى آله الهداة، وأصحابه التُّقَاة، وكل من مشى على هديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين يا رب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
وقد استمعنا قبل الصلاة إلى آيات من: (سورة النجم) تتحدث عن معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يسعنا الوقت لإبراز هذه الحادثة وذكر هيئاتها وكيفياتها، ولكن أريد أن أقف معكم عند أمر واحد حدث فيها. هذا الأمر يبيِّن سرَّ ازدهار دعوة النَّبِيِّ وظهور رسالته في الآفاق، وهو الأساس الذي إن أردنا أن نسعد في الدنيا أن نتمسك به، ونسير على هديه في هذه الأيام.
عندما أُسْرِيَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وكان نائماً في هذه الليلة عند ابنة عمه السيدة أم هانئ بنت أبي طالب، وكان بيتها في جوار الكعبة المشرفة، وبعد رجوعه أخبرها بما حدث، فقالت يا ابن عمي لا تحدث القوم بما رأيت فيكذبونك، فقال: لابد من ذلك تنفيذاً لأمر الله، فذهب إلى الكعبة المشرفة يطوف حولها، وكان أهل مكة جلوس بالقرب منها ومعهم أبو جهل، فقال: يا محمد هل من جديد؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: أُسْرِيَ بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: ذهبتَ إلى بيت المقدس وعُدْتَ في هذه الليلة!!! إنا نضرب أكباد الإبل إليها شهرًا ذهاباً وشهرًا إيابًا!!! فهل لو جمعتُ لك قومك تحدِّثهم بذلك؟ قال: نعم.
فانطلق أبو جهل يدعو جموع الكفار ليستمعوا إلى حديث النَّبِيِّ المختار صلى الله عليه وسلم، فذهب جماعة منهم إلى أبي بكر الصديق وقالوا: يا أبا بكر إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في هذه الليلة. ماذا كان رده؟ وهذا ما أريد أن أوضحه اليوم - معبِّراً عن حُبِّه للحبيب!! عن حُبِّه الذي انطوى في قلبه لهذا النَّبِيّ!! قال: (إن كان قد قال فقد صدق). قالوا: أتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلة واحدة؟ قال: وأصدقه في أبعد من هذا، أصدقه في خبر السماء ينزل به أمين الوحي جبريل من فوق سبع سموات في لحظة، أفلا أصدقه في هذا!! ثم ذهب إلى هؤلاء القوم وهم مجتمعون حول النَّبِيّ، وأراد أن يبرهن لهم على صدق هذا النَّبِيِّ، فقال: يا قوم هل تعلمون أن محمدًا ذهب إلى بيت المقدس من قبل؟ قالوا: لا، قال: فنسأله عن وصفه، فإنْ صدق في وصفه فقد صدق فيما قال. ثم قال: يا رسول الله، أنبأني عن بيت المقدس، قال صلى الله عليه وسلم: فكربتُ كربًا شديدًا، وتوجهَّتُ إلى الله عزَّ وجلَّ، وإذا بأمين الوحي جبريل يهبط ويحمل بيت المقدس على كفِّه، ويديره لي حتى أصفه وأنا أراه.
سألوه: كم له من الأبواب؟ قال: له كذا وكذا من الأبواب، باب هيئته كذا، وباب هيئته كذا، حتى انتهى من وصفها جميعًا. فسألوه عن هيئته الظاهرة .. فأخبرهم، سألوه عن هيئته الداخلية .. فأنبأهم، فقالوا: أما الوصف فقد صدق!! وكان كلما وصف شيئاً، قال له الصديق: صَدَقْتَ، فلما انتهى من جملة الوصف قال: وأنت يا أبا بكر الصديق. فَسَمَّاهُ صلى الله عليه وسلم الصِدِّيق.
هؤلاء القوم الذين التَّفوا حول حضرة النَّبِيِّ - أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغَيْرُهُمْ - أحَبُّوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حُبًّا أعظم من حُبِّهم لآبائهم ولأبنائهم، ولأزواجهم ولعائلاتهم، ولأموالهم ولأي شيء لهم في هذه الحياة الدنيا!!! وكان كلُّ رجل منهم يقول: (فداك رسول الله أبي وأمي)، (بأبي أنت وأمي يا رسول الله)، وكانوا يفدونه بكلِّ ما يستطيعون، حتى عجبتْ الخلائق من شدَّة حُبِّهم لحضرة النَّبِيّ!!!
يتقدمون أمامه في الأخطار ليمنعونه ويتعرضون هم لهذه الأخطار، ويحفونه بصدورهم لئلا يصيبه شيء من سهام أعدائهم. هذا الحبُّ الذي كان في صدورهم وقلوبهم لنبيِّهم، هو السرُّ وراء نجاح هذه الدعوة، وهو السبب وراء انتشار الإسلام، وهو الذي أدَّى إلى ظهور دين الله على الأنام، لأن النَّبِيَّ كان معه قومٌ يحبُّونه حُبًّا لا يضاهيه حُبّ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لهم، مبيِّنًا لهم الحُبَّ الذي ينبغي أن يكون لحضرته في قلوبهم: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله ونفسه وولده والناس أجمعين) (رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين").
وجاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم مُظِهَرًا عدم رضاه عن هذا القول، وقال: والذي نفسي بيده لأنت أحب إليَّ من كل شيء حتى نفسي التي بين جنبي، قال: (الآن تم إيمانك يا عمر) (رواه البخاري بلفظ: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلاّ من نفسي. فقال:" والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك "، فقال له عمر: فإنك الآن أحب إليَّ من نفسي. فقال:" الآن يا عمر "). وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال.
بل إن ملائكة السماء وَقَفُوا ذات يوم يشاهدون المحيطين بالنَّبِيِّ ويعجبون!! وأنزلوا أمين الوحي جبريل يسأل النَّبِيَّ عن هذه الأحوال - وكان ذاك في غزوة أحد ويومها، عندما أحاط المشركون بالنَّبِيِّ - فقال الأمين جبريل: يا رسول الله، مَنْ هذا الرجل الذي كان يقف أمامك ويتلقى سهام الأعداء بصدره حتى لا تقع في نحرك؟ قال: ذاك طلحة الخير بن عبيد الله، قال: بَشِّرْهُ بالجنَّة. ثم قال: يا رسول الله، مَنْ هذا الرجل الذي كنت تعطيه السهام بيدك، ويمسك بالسهم ويقذفه ويقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله، بأبي وأمي أنت يا رسول الله؟ قال: ذاك سعد بن أبي وقاص، قال: فَبَشِّرْهُ بالجنَّة. ثم قال: يا رسول الله، مَن ْهذا الرجل الذي عندما دخل السهم بين أسنانك اقتلعه بأسنانه حتى سقطت أسنانه، وعندما رأى الدم نازلاً من فمك رفع ثوبه وتلقاه حتى لا يقع على الأرض؟ قال: ذاك أبو عبيدة عامر بن الجراح، قال: بَشِّرْهُ بالجنَّة، وهو أمين هذه الأمة.
كانوا كلُّهم يُفْدُون رسول الله صلى الله عليه وسلم!!! حتى أنه من العجب أن امرأة خرجت من المدينة - وقد خرج زوجُها وأخوها وابنُها لمشاركة النَّبِيِّ في هذه الغزوة - لتطمئن عليهم، وعندما اقتربت من الواقعة قالوا لها: لقد مات زوجك، قالت: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بخير، ثم بعد ذلك قالوا لها: لقد مات أبوك، قالت: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بخير. ثم سارت فقيل لها: لقد مات ابنك، قالت: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بخير، قالت: أروه لي، فأوقفوها على صخرة وقالوا: انتظري هنا يا أمة الله، فإن رسول الله سيمُرُّ من أمامك في هذا الموضع، فلما اقترب النَّبِيُّ منها قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت وأخذت تمسك ثيابه بيديها وتقول: (كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَل) أي صغيرة (رواه ابن هشام في السيرة (3/ 43) والبيهقي في الدلائل (3/ 302)). ما دام رسول الله بخير فهي بخير.
هكذا كان حبُّهم الذي قال فيه الله - مثنياً عليهم: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) (9الحشر). كانوا يحبون هذا النبيَّ حبًّا لا يستطيع أحدٌ وصفه ولا عدَّه، ومع ذلك يبشرنا حضرة النَّبِيِّ أننا في وسط هذه الظلمات، وفي وسط هذه الفتن والكوارث والنكبات، وفي شدة الأزمات التي نمر بها ويمر بها وطننا والمسلمون جميعًا الآن: أن هناك رجالٌ بيننا ـ ونسأل الله أن نكون منهم أجمعين ـ في قلوبِهِمْ حبٌّ للنبيِّ يضاهي حبَّ أصحاب النبيِّ، وإن لم يكونوا على قدرهم فهم على آثارهم، يقول فينا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (إن من أشد أمتي لي حُبًّا رجالٌ يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله) (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه). يصف رجالاً في هذا الزمان .. يحبُّون النبيَّ ويودُّون رؤيته أو زيارته، ولو كلفهم ذلك كل ما يملكون من مال!!! ولو كلفهم ذلك مفارقة الأهل والعيال!!
ولعلكم تلحظون ذلك جميعاً في هذه الأيام، فمصر مع أنها بلد فقيرة وأهلها فقراء إلا أن التنافس فيها في الحجِّ وزيارة حبيب الله ومصطفاه لا تجده في بلد من بلاد الله جلَّ في علاه!! أفقر بلاد الله .. وأغلى حج ينظم في كل دول العالم ينظم في هذه البلدة لشدة التنافس إلى الذهاب لِحَجِّ بيت الله وزيارة رسول الله، حتى أن الذي يفوز بذلك يكون هذا خيراً له من أعلى الشهادات العلمية، ومن أرقى المناصب الدنيوية، ويهنئه الجميع ويقيمون له الحفلات، لماذا؟ هل يذهب للحصول على الأموال؟ هل يذهب لزيادة الدخل؟ يذهب لزيارة الله في بيته!! وزيارة الحبيب في روضته!! وهذا يدل على مكنون المحبَّة التي جعلها الله عزَّ وجلَّ في قلوبنا جماعة الأحبة، وهي دليل على رضاء الله، وعلى حُبِّ حبيبِ الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في شأننا: (وشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد. فقال سيدنا عمر: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، إخواني قوم يأتون في آخر الزمان، آمنوا بي ولم يروني، عمل الواحد منهم بسبعين منكم. قال: بسبعين منا أو منهم يا رسول الله؟ قال: بسبعين منكم، أنتم تجدون على الحق أعواناً، وهم لا يجدون) (روى الإمام مسلم في معناه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددت أني رأيت إخواني ، قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين لم يأتوا بعد)).
فأبشروا يا أحباب حضرة النبيِّ، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ أكرمكم ببشارات النبيِّ، وجعل لكم أعمالاً مضاعفة، وأجورًا لا تعدّ، ودرجاتٍ لا تحدّ. يكفينا شرفًا وفخرًا أننا سنكون يوم القيامة مع حبيب الله ومصطفاه!!! فإن خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان، مرض يومًا وظهر عليه الذبول والنحول، فقال صلى الله عليه وسلم: ما تشتكي يا ثوبان؟ فقال: يا رسول الله ليس بي شيء، إلا أني إذا لم أرك استوحشت وحشة عظيمة، فتذكرت الآخرة والجنة، وأنك تكون في درجة النبيين، وأنا مع عوام المؤمنين فلا أراك، فهذا الذي أسقمني وأمرضني. فما كان من ربِّ العزَّة عزَّ وجلَّ، إلا أن أَمَرَ أمين الوحي جبريل أن ينزل ببرقية عاجلة لكل محبٍّ للحبيب إلى يوم الدين، يقول فيها مبشرًا لنا رب العالمين: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا) (69، 70النساء) (روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعكرمة، وعامر الشَّعْبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، قال ابن كثير: وهو من أحسنها سندًا (تفسير ابن كثير:2/354)).
بل إن أكبر بُشرى للمُحبِّين تُريح قلوبهم، وتجعلهم يتوقون دومًا إلى اللحاق بالحبيب، والعمل بسنَّته وتطبيق شريعته، قال سيدنا أنس رضي الله عنه: (يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها كثيرَ صلاةٍ ولا كثيرَ صيام، ولكنِّي أحبُّ الله ورسوله قال: أَبْشِرْ، يحشر المرء مع من أحب يوم القيامة) (رواه الإمام مسلم وغيره عن أنس). أو كما قال ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكرمنا بهدايته، ولاحظنا بعنايته، وتوَّجنا بتاج طاعته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، يقيم عباده وأحبابه في ذِكْرِهِ وشُكْرِهِ وحُسْنِ عبادته، ويحفظهم ويصونهم من معصيته ومخالفة شريعته. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُه، أرسله الله عزَّ وجلَّ داعيًا إلى جنته، وجعل من أطاعه من أهل جنته، ومن عصاه من أهل شقوته. اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هداه، ووفقنا للعمل بشرعه وحسن متابعته في سنته أجمعين يا ألله، وارزقنا زيارته في روضته، واجعلنا تحت لواء شفاعته، واجمعنا جميعاً في جواره في الجنة أجمعين، آمين يا ربَّ العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
إن الحبَّ الذي يُبَلِّغُ أهله هذا الذي ذكرناه، والذي عبَّر عنه حبيب الله ومصطفاه - هو الحبُّ الذي يدفع المُحبَّ إلى إتِّباع الحبيب، ويجعله يمشي دائماً على هداه، ويتبع سنَّته ويعمل بشرعه في كل أطواره في هذه الحياة، لا يخالفه في قضية، ولا يخلفُ أمره في أي أمر، وإنما دائماً وأبداً يطيع الرسول، (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) (80النساء)
وقد وعد الله عزَّ وجل الأمة إذا أطاعت الرسول بالنصر والعزَّة والتمكين، والخير والسرور والحياة الهانئة الآمنة في الدنيا، والعلوّ على الكافرين والمشركين أجمعين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (55النور). وحذَّر الله عزَّ وجلَّ من مخالفة هذا النبيِّ ومن خلاف شريعته، فجعل مخالفته وخلاف شريعته سبب كلِّ المصائب والمشكلات لنا في الدنيا، وسبب كل العقوبات لنا في الآخرة، فقال الله عزَّ وجل لنا محذرًا: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (63النور).
فكل الفتن التي تحدث فيما بيننا أو في بلادنا ما أسبابها؟ مخالفة النَّبِيّ، ترك سُنَّةَ النَّبِيّ، ترك العمل بشريعة النَّبِيّ، لكننا لو عملنا بكتاب الله، وطبقنا سُنَّة رسول الله، وحكَّمنا شرع الله في كل أحوالنا؛ فإن الله عزَّ وجلَّ - وهو القادر - سيغيِّر حالنا إلى أحسن حال، وسيجعل أحوالنا كلها يعجب منه القاصي والداني، لأن الله عزَّ وجلَّ صُنعه عجيب، وأمره ليس بغريب لكل حبيب مشى على هدي الحبيب صلى الله عليه وسلم.
واعلموا علم اليقين أن حُبَّ النَّبِيِّ ليس أقوال لا تطابقها أفعال، وليس بالأناشيد التي لا يطبقها سلوك حميد، وليس بخطب منبرية لا يوازيها بعد ذلك سلوكيات عملية، وإنما حبُّ رسول الله - الذي يعلمنا إياه الله – فيقول: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي) (31آل عمران).
علامة الحُبِّ متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، متابعته في كلِّ أمر .. في العبادات، والأخلاق، والمعاملات، والسلوكيات. ليس متابعته في العبادات فقط، وإنما الذي مدحه به الله عزَّ وجلَّ على الملأ، مدحه على الأخلاق وقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4القلم). وقد بيَّن لنا سرَّ هذه المكانة العظيمة فقال: (أوصاني ربِّي بتسع أوصيكم بهنّ، أن أعفو عمَّنْ ظلمني، وأن أصل مَنْ قطعني، وأن أُعطي مَنْ حرمني) (رواه رزين)
من الذي يستطيع أن يطبق ذلك؟!! الذي يعلن حبَّ النَّبِيّ. والذي يتغنى بمحبَّة النَّبِيّ علاماته أن يتابع النَّبِيّ، فيعفو عمَّن ظلمه، ويصل مَنْ قطعه، ويعطي مَنْ حرمه، ويمشي في الأرض بالأخلاق المحمدية والآداب القرآنية، ويتعامل مع الخَلْقِ جميعاً في معاملاته بموجبات الشريعة المحمدية، فلا يغش في كيل ولا وزن، ولا سِعْرٍ ولا غيره، ولا يطفف كيلاً ولا ميزان، ولا يحتكر سلعة على المسلمين، ولا يرضى لخلق الله ما لا يرضاه لنفسه، بل إنه يحبُّ لخلق الله ما يحبه لنفسه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لإخوانه ما يحبه لنفسه) (متفق عليه عن أنس رضي الله عنه).
هذه هي المحبة التي تكلَّم عنها رسول الله، والتي نحن بأمسِّ الحاجة إليها الآن في هذا الزمان. ما أعلى الأصوات التي تتكلم عن شريعة الله!! إن كان في الفضائيات والإذاعة، أو في الصحف والمجلات، أو على المنابر وفي المساجد!! ولكن أين السلوكيات التي نراها مطابقة سلوكيات حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؟!!.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُصْلِحَ أحوالنا، وأن يقوِّم أخلاقنا، وأن يطهِّر نفوسنا، وأن يذهب الأحقاد والأحساد والغلَّ والشح والحرص من قلوبنا، وأن يملأ قلوبنا بالمحبَّة لنبيِّنا، والمودَّة لبعضنا، والصفاء فيما بيننا، وأن يجعلنا جميعاً أخوة متآلفين متكاتفين متعاونين، وأن يجعلنا نتعاون أجمعين على البرِّ والتقوى، ونتعاون على طاعة الله وذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يتوب على العُصاة والمذنبين، وأن يأخذ على أيدي المقصرين والمخالفين ويردَّهم
إلى شريعة النَّبِيِّ ودينه تائبين، وأن يجعلنا جميعاً في هذا البلد الأمين في رخاء وسخاء وخير متواصل إلى يوم الدين. اللهم أصلح الراعي والرعيَّة واجمعنا جامعة إسلامية، وأصلح أحوال أولادنا وبناتنا، وزوجاتنا وأخواتنا، وإخواننا المسلمين أجمعين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، والمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين. اللهم أهلك الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين، واقْضِ على المنافقين والمتربصين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين، واجعل ديار الإسلام ديار الأمن والسلام، ووفقنا جميعاً لما تحبُّه وترضاه يا أكرم الأكرمين.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (90النحل).
اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق