غير المسلمين من الناس ثلاثة- أصناف:
الأول: أهل الكتب السماوية السابقة من اليهود
والنصارى.
الثانى: المشركون الذين أشركوا مع الله الهاً
غيره.
الثالث: الكافرون الذين جحدوا وجود الله وأنكروه ولم يعترفوا به.
وهذه الأصناف الثلاثة قد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ بكل الأساليب من وقت أن
بعث إلى أن لقى ربه وأنتقل إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، ومن بعده قام
المسلمون بهذا الدور إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله بعد ذلك.
وأساس دعوة هؤلاء الناس إلى الله هو القرآن
الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساليب الأئمة الراشدين والهداة المصلحين رضى الله تعالى عنهم، وسنسوق إليك
نماذجاً من كل هذه الأسس الثلاثة.
أولا:أسلوب القرآن فى دعوة أهل الكتاب إلى الله
نجده مرة يدعو اليهود والنصارى بقوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى
كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ
اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[1]. ولقد تلطف القرآن الكريم فى دعوة أهل الكتاب إلى الايمان الصحيح، ونبذ ما هم
عليه من العقائد الباطلة، والعبادات الفاسدة بهذه الآية الكريمة، وناداهم القرآن
بقوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ لأنهم أصحاب التوراة وأصحاب الإنجيل وهذين
الكتابين لا يختلفان مع القرآن الكريم فى شيء من أصول الدين من توحيد الله وإفراده
بالعبادة، والمساوة بين الناس، لأن القرآن الكريم من عند الله وهما من عند الله
أيضاً وهذين الكتابين قد بشرا بالقرآن، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهما أقرب الكتب
السماوية عهدا بالقرآن الكريم وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد دعاهم رسول
الله إلى أمور أساسية وأصلية اتفقت عليها جميع الكتب السماوية، وهى إفراد الله
بالعبادة دون غيره، والعبادة هى الإيمان الصحيح والعمل الصالح، إذ الإيمان عبادة
القلب، والعمل الصالح عبادة الجوارح، ثم دعاهم إلى تنزيه الإله الحق عن الابن
والولد وعن الصاحبة والزوجة وغير ذلك مما نسبوه إلى الله زورا وبهتانا، لأن ذلك هو
عين الشرك بالله عزَّ وجلَّ فانه سبحانه واحد ليس له ثان من أصل أو فرع أو مساو أو صاحبة، وأنه أحد ليس
له أجزاء يتكون منها، وليس سبحانه جوهر ولا عرض إذ أن الجوهر يحتاج إلى حيز ومكان
يكون فيه، والعرض يحتاج إلى جوهر يقوم به ويظهر فيه والمحتاج لشئ لا يكون إلها ولا
ربا يستحق التنزيه والعبادة، وقد بينت الآية هذه المعانى بقوله سبحانه: ﴿تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾. وفى قوله سبحانه ﴿تَعَالَوْاْ﴾. يعنى هلموا وأقبلوا وارتفعوا عن هذه
العقائد الفاسدة والعبادات الباطلة وضعوا أيديكم فى أيدينا، وتعاهدوا معنا على
توحيد الله وتمجيده وعبادة الله والاخلاص فيها، ورفض جميع أنواع الشرك الظاهرة والباطنة.
قوله تعالى:﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن
دُونِ اللّه﴾. كان المقتضى أن
يقول لهم ولا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله لأن اليهود والنصارى هم الذين
يرتكبون هذا المنكر الشنيع ويعبد بعضهم بعضاً ويقدس بعضهم بعضاً، بحجة أن أحبارهم
ورهبانهم قديسين يعنى مطهرين ومنزهين عن الخطأ والزلل فكانوا يأتمرون بأوامرهم
وينتهون بنواهيهم ولو كان فى ذلك مخالفة التوراة والإنجيل لاعتقادهم أن هؤلاء
الأحبار والرهبان لا يضلون ولا يزلون ولكن القرآن تلطَّف إليهم وخاطبهم برقة وأدب
كريم فقال: ﴿وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّه﴾. بإدماج المسلمين مع أهل الكتاب فى هذه الناحية
على حد قوله: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[2].ولما نزل قوله تعالى:﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ
اللّه﴾. قال عدى بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{وما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال عليه السلام:
أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم، قال نعم قال عليه السلام هو ذاك}.
قوله
تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ يعنى إن أعرض أهل الكتاب من اليهود والنصارى
ولم يستجيبوا لما دعوتهم إليه بعد تكرير الدعوة لهم وإقامة الحجة عليهم، فقل لهم
أنت ومن معك من المؤمنين: ﴿اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ وفى هذا التعبير حمل لأهل الكتاب بطريق غير
مباشر، ودفع لهم بأسلوب فيه تورية إلى الإسلام، لأن فى ذلك إقرار منهم بصحة
الإسلام الذي نحن عليه، وبطلان ما هم عليه من الضلال والانحراف عن دين الله الحق،
وكثيرا ما ورد فى القرآن توجيه الخطاب والحديث إلى اليهود والنصارى من أجل دعوتهم
إلى الله بالأساليب المتنوعة، والأحاديث المتغايرة فعساهم أن يقلعوا عن غيهم
ويدخلوا فى دين الله القويم، وهذه الآية التى بيناها هي مثلاً قد سقناه بين يدى
القارئ ليعلم مدى اهتمام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعناية القرآن المجيد بأهل الكتاب من اليهود والنصارى حرصاً على نجاتهم،
وأملاً فى فوزهم وإسعادهم، ومن أراد الله به خيراً هداه إلى الإسلام، وشرح صدره
إليه، ومن لم يرد الله هدايته فلن يهديه أحد من دون الله، ولله فى خلقه حكم وشئون،
وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
أسلوب القرآن في دعوة الكافرين والمشركين إلى الله
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً
وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ وَإِن
كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن
مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ
فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ﴾[3]
وفى هذه الآيات المحكمات دعوة قوية، ونداء بصوت
مرتفع لكل الناس بعبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد الحى القيوم الذى لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وفى قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ إشعار بأنهم ناس
معهودون وهم أهل الكفر والنفاق، وأهل الشرك بالله، لأنهم هم الذين أعرضوا عن عبادة
الله عزَّ وجلَّ، وجحدوا حق الله عليهم، وتعاموا عن حكمة خلقهم
وإيجادهم، وعن حكمة إمدادهم وتسخير هذا الكون لهم فإن الله ناداهم إلى عبادته
ليقيم عليهم الحجة، وليوضح لهم السبيل والحجة حتى لا يكن هناك عذر لأى واحد منهم
بعد ذلك.
والقرآن له أسلوب خاص فى مخاطبة العقلاء حتى لا يجرح مشاعرهم ولا يؤذى
أحاسيسهم فلم يقل القرآن لهم يا أيها الكافرون ولا يا أيها المنافقون ولا يا أيها
المشركون أعبدوا ربكم ولكن قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ تلطفا لهم في
الخطاب، وترفقا إليهم فى الحديث وقول الله تعالى: ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ وهذا هو المقصود من
نداءهم والمراد من دعوتهم فإن الله لم يخلقهم إلا لذلك قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[4] والعبادة هي الإيمان والعمل الصالح لأن الإيمان هو عبادة القلب، والعمل
الصالح وهو عبادة الجوارح وقد بين الله ورسوله الأمورالتى يجب على الناس أن يؤمنوا
بها، والأمور التى يجب عليهم أن يقوموا بعملها، وإذا آمن المرء ودخل فى الإسلام
عرف ما يجب عليه فعله وما يجب عليه تركه، وفى قوله تعالى: ﴿اعْبُدُواْ
رَبَّكُمُ ﴾ بتخصيص الرب
بالعبادة جل شأنه لأن كل إنسان له أدنى عقل يعلم بفطرته وبعقله البسيط أن له ربا
خلقه وصوره ورباه على نعمة وإحسانه، وهذه القضية لا يختلف فيها اثنان، إذا أن وجود
الإنسان ليس من نفسه وليس من أى كائن غيره بالضرورة والطبع، لأن وجوده من نفسه
مستحيل لتغيره وتطوره فى كل وقت من الأوقات لأن الموجود من نفسه وذاته لا يتغير
ولا يتبدل، وإيجاد غيره له من الكائنات مستحيل كذلك لأن الكائنات متغيرة ومتحولة،
وكل متغير لابد له من موجد يحدث فيه هذا التغير،فلم يبقى بعد ذلك إلا الرب الكبير
الأعظم الذى لا يتغير ولا يتبدل، هو الذى أوجد الانسان وسخر له السموات والأرض وما
فيهما ومن فيهما ليريه بما فيهما من نعم وآلاء،وليبلغه إلى غايته ونهايته التى
قدرها الله له، وفى هذا التعبير الكريم وهو قوله تعالى:
﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ إشعار بضرورة
الانتماء إلى هذا الرب جلَّ جلاله وضرورة التعرف عليه سبحانه وتعالى، وضرورة التعلق به عز شأنه، اذ أنه سبحانه تعهد هذا الانسان برعايته
وعنايته من قبل أن يخلقه ومن بعد أن خلقه إلى نهاية العالم وإلى ما شاء الله بعد
ذلك، ومن كان كذلك فهو الرب حقا، والمستحق للإلوهية يقينا والجدير بالعبادة
والتعظيم والطاعة دون غيره من الآلهة الكاذبة والأرباب الباطلة الذين لا يملكون
الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لمن يعبدهم نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً ولا
إيجاداً ولا خلقاً ولا إعطاء ولا منعاً ولا حياة ولا موتا ولا بعثاً ولا نشوراً
ولا أى شئ بالمرة، ولكن العقل المنكس على رأسه والمنقلب على وجهه قد أعماه الهوى، وقد
أرداه الحظ والضلال فى مهاوى التهلكة وظلام الجحود والكفر ولا حول ولا قوة الا
بالله العلى العظيم، ثم أخذ الحق بعد ذلك يقيم البرهان والحجة والدليل لهؤلاء
الناس على أحقيته بالعبادة وعلى ضرورة الايمان به سبحانه بقوله عز شأنه ﴿الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ وهذه قضية مسلمة فإن الذى له القدرة الفائقة على إنشاء الإنسان وإيجاده من
محض العدم تارة ومن المادة تارة أخرى هو الذى يستأهل أن يعبد وأن يشكر وأن يذكر
وأن يطاع وأن يمجد وأن يعظم اعترافا من الإنسان بحق هذا الرب عليه، وكذلك فهذا
الرب هو الذى خلق أصولنا التى من قبلنا كما خلقنا حتى لا يدعى أحد أن قضية الوجود
هى حركة التوالد والتناسل المستمرة، والتى يشهدها الإنسان كل وقت على هذا النحو
المعروف لنا جميعا من الأرحام التى تدفع والأصلاب التى تضع النطفة فيها فلو أنعم
الإنسان النظر في أصوله التي جاءت قبله لانتهى به الأمر إلى أن عمليه التوالد ليست
إلا سببا من الأسباب التى جعلها الله لخلق الانسان، ولو شاء الله لخلق الناس كلهم
كما خلق آدم عليه السلام من غير أب ومن غير أم ولكن الله لطيف كريم وذو فضل عظيم،
جعل التزاوج فى خلق الانسان لتقوم بين الناس أواصر المحبة والألفة والتعارف
والتآلف،ويعمر هذا الكون على هذا النسق البديع الذى تتشابك عراه ببعضها منتظمة فى
سلك من الإبداع والإعجاب مما أبهر العقول وأدهش الألباب، وسنشير فى هذا المقام إلى
أنواع خلق هذا الانسان وكيفية إيجاده فمرة يخلقه الله من غير أب ومن غير أم كآدم
عليه السلام، ومرة يخلقه الله من أب وبدون أم كحواء عليها السلام، ومرة يخلقه من
أب وأم كسائر بنى الإنسان في الإيجاد من طريق التوالد التزاوج ومرة يخلقه الله من
أم دون أب كسيدنا عيسى عليه السلام، ومرة يخلقه الله من أبوين بلغا من الكبر
عتيا-ووصلا إلى سن اليأس من جفاف المادة الغريزية فى كل من الوالدين وإلى درجة
العقم العقيم الذى يستحيل عادة وعقلا إيجاد إنسان منه، وذلك كما حصل فى أبناء
سيدنا إبراهيم عليه السلام اسماعيل واسحاق وفى يحيى بن سيدنا زكريا عليه السلام،
فإن الرب جل جلاله الذى نوع كيفية إيجاد هذا الانسان على هذا النحو الذى مر بك لهو
الرب حقا والإله صدقا ويقينا الذى يستحق العبادة والحمد والثناء عليه بما هو أهله
فإنه على كل شئ قدير قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وهذه العبارة الشريفة علة فى عبادة الناس لربهم
إذ أن العبادة تقى الناس من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة وتحفظهم من الشرور والمفاسد
والأهوال، وفى الوقت نفسه فإنها تنفيذ لأمر الله عزَّ وجلَّ، وقيام له بحق العبودية
من الطاعة والولاء والذل والانكسار، وكلمة لَعَلَّ تفيد معنى الإشفاق، والعطف وكأن الله جلَّ جلاله يتنزل من سماء الرفعة
الإلهية الإلهية عبادة فيخاطبهم بهذا الخطاب، ويحدثهم بهذا الحديث وينادى عليهم
بهذا النداء ليشعرهم بعطفه وشفقته سبحانه وتعالى عليهم وليحثهم بهذا الأسلوب الكريم على التقوى وهى العبادة الخالصة لله عزَّ وجلَّ، والتقوى كلمة تفيد
التحفظ والتحصن والمكاره والشدائد والمحن والعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة، وإن
الذى يعبد ربه قد دخل حقا فى هذه الحصون المنيعة فإن كلمة لَعَلَّ تفيد الترجي كما تفيد الإشفاق، والترجي في جانب الله إنما هو لتحقيق وقوع
المرجو لا محالة بخلاف الترجي الذي يكون بين الناس فإنه يتحقق مرة ويتخلف مرات،
فإذا قال الله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ يعنى حقا ويقينا ستتحصنون وتمتنعون من سخط الله
وغضبه وعقابه وفى هذه الآية الشريفة بشارة لمن آمن وعمل صالحا، بأنه سيدخل فى كنف
الله، وسيأوى إلى رحمة الله، وسيحتمى فى حمى الله، ذلك الفضل من الله وكفى بالله
عليما:﴿إِنَّ اللّهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾[5]
ثم أخذ القرآن بعد ذلك يستكمل ذكر الحجج
الدامغة، والبراهين القوية على أحقيته بالربوبية والعبادة دون غيره فقال عز من
قائل: ﴿ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشا﴾ وهذا هو البرهان
الدال على كمال قدرة الله وحكمته، والدال على أحقيته سبحانه بالإلوهية والعبادة،
ومعنى جعله الأرض للناس فراشا أى مهدها لهم وبسطها لهم ليتمكنوا من الارتفاق
بها،والسكنى عليها، وإقامة الحياة فوقها من زراعات وصناعات وعمارات ومنشآت وغيرها،
مع أن هذه الأرض تحيط بها المياه العميقة من كل جانب، بل أنها قد بسطت على لجة من
الماء، وكان المقتضى أن ترسب فى أغوار هذا الماء كما لو ألقى الإنسان حجرا في
البحر، ولكن الله أمسكها بقدرته من الرسوب والغرق، ليعيش فوقها الإنسان وينتفع
بها، وليس فى مقدور أى قوة من القوى مهما كانت أن تفعل شيئا من ذلك وهذا باعتراف
العقلاء كلهم على السواء المؤمن منهم وغير المؤمن، والدليل الثالث على ربوبية الله
واستحقاقه العبادة قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء بِنَاء﴾ أي جعل السماء بناء، والسماء هى المشهودة للحس
والعيان بما فيها من كواكب وأبراج ونجوم وأفلاك وغير ذلك مما لا يعلمه إلا
الله،وقد رفعها الله وبناها متماسكة قوية بدون أعمدة للدلالة على عظمة الله
وقدرته، وإبداع الله وحكمته، وقد صيرها الله فوق الأرض كالسقف لها يحفظها من وقوع
أي شيء على أهلها فيهلكهم، وقد زينها الله بالشموس والأقمار والكواكب والنجوم لنفع
بنى الانسان وإمدادهم بما يحتاجونه من الحرارة والدفء والضوء والنور وغير ذلك مما
لا يحصى عدده من المنافع والخيرات.
والدليل الرابع على ألوهية الله وربوبيته، وعلى
استحقاقه للعبادة دون سواه قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ وقد جعل الله هذا الكون مرتبط بعضه ببعض، كالأنشودة المتناسقة النغم، فأنزل
بقدرته وحكمته من جهة السماء ماء بقدر لإحياء الزروع والنباتات وسقى الإنسان
والحيوان والطيور، وجميع الكائنات الحية فأخرج بهذا الماء الثمار والغلال والحبوب
والحاصلات الزراعية الأخرى التى تؤخذ منها الملابس والأثاثات والمفروشات ونحوها،
وكل هذا هو رزق للإنسان يأكل منه، ويتفكه به ويتمتع به، وإن أحدا لا يستطيع ولا
يقدر على شيء من ذلك ولو اجتمع الإنس والجن كلهم على أن يبنوا هذه السماء، أو
يمسكوها من الوقوع عليهم، أو ينزلوا الماء من السحاب ما استطاعوا إلى ذلك
سبيلا، ولعجزت قوتهم عن أن يفعلوا شيئا من
ذلك.
وقد يقول بعض الناس إن هذه الأفعال العجيبة هى
فعل الطبيعة، فنقول لهم ما هى الطبيعة عندكم؟ هل هى نفس السماء ونفس الأرض ونفس
السحاب وغير ذلك، من الكائنات التى ترونها، فلو قالوا نعم، قلنا لهم إن هذه
الطبيعة ليست عاقلة ولا حكيمة حتى تؤدى هذا الفعل العجيب، والصنع البديع والنظام
الحكيم الذى لا يصدر إلا عن قوة عظيمة جدا لها كل المميزات والخصائص والكمالات والعظمة
والقدرة والحكمة والعلم والإرادة وهذه القوة الغيبية كما أبدعت هذا النظام الكونى
وسخرته لبنى الإنسان، قد عرفت نفسها للناس جميعا بأنها هي الله الواحد الأحد لا إله
غيره ولا رب سواه ولا معبود بحق إلا هو جلَّ شأنه.
ويجب على الانسان أن يفكر مليا، وأن يتدبر
طويلا فى نفسه، وفى هذا الوجود من حوله من غير تعصب للتقاليد الموروثة أو لمذهب من
المذاهب، ومن غير هوى فى نفسه يسير وراءه فإنه قطعا وبلا شك، سيهتدي إلى الإيمان
بالله جلت قدرته، وتعالت حكمته قوله تعالى: ﴿فَلاَ
تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. وبعد أن ساق القرآن الأدلة الباهرة،
والبراهين الساطعة والحجج الدامغة التى لم تترك ثغرة لمعترض أو معتذر ينفذ منها
مما جعل استحقاق الله للربوبية والألوهية والعبادة والتنزيه والتقديس أمرا محققا
وثابتا، ومقررا فى الفطر والعقول السليمة، وحيث أنه تقرر ذلك فى الأذهان والعقول
وفى الحقيقة والواقع العيان ولا مجال للناس فى إنكاره. فلا ينبغي بعد ذلك ولا يجوز
أن تتخذوا مع الله شريكا فى هذا الكون، والأنداد جمع ند والند هو النظير المساوى
للشيء في كل أموره.
وقد كان الكافرون لجهلهم يقولون ويعتقدون أن
أصنامهم وأوثانهم تنفع وتضر وتقدم وتؤخر، وتسعد وتشقى، مثل الرب جل شأنه، فلما ساق
الله هذه الأدلة القوية التى تقدمت وتبين أن آلهتهم التى جعلوها متساوية مع الله
لا تستطيع أن تفعل شيئا مما تقدم ذكره من جعل الأرض فراشا وجعل السماء بناء، وإنزال
الماء من السماء، وتقرر ذلك في النفوس، وترتب عليه أن يأمرهم الله سبحانه بالإذعان
لجلاله والانصياع لعظمته وألا يجعلوا له ندا ولا ضدا، ولا شريكا ولا معينا، ولا
مشيرا ولا زوجة ولا ولدا ولا أبا ولا أما مما توهمه المشركون وتخيله الضالون
وافتراه الجاهلون فسبحان ربك رب العزة عما يصفون ولذلك قال تعالى: : ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾. أي لا ينبغي أن
تجعلوا لله أندادا بعد انكشاف الحقائق لكم، وظهور الأدلة والحجج أمام أعينكم،
وعلمكم بها لأن اتخاذكم آلهة غير الله أو مع الله بعد علمكم بما تقدم دليل على
جحودكم الحق بعد ما تبين، وإنكاركم الضرورات العقلية، وكفرانكم بالمسلمات
البديهية، وهذا هو الشقاء الأكبر بعينه، والضلال والخسران المبين، قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾. وبعد أن قررت الآيات السابقة وجود الله سبحانه وتعالى بالأدلة القطعية، ذكرت
هذه الآية ضرورة الايمان بأن القرآن من عند الله أنزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس
وليخرجهم به من الظلمات إلى النور.
والريب هو الشك والتحير وعدم الاطمئنان، وهذا
الخطاب إنما هو لكل من يتشكك ويرتاب فى أمر القرآن المجيد من لدن بعثة رسول الله
إلى قيام الساعة، والله عز شأنه إنما يتحدى بذلك كل من يرتاب فى أمر القرآن، ويدعى أنه لم ينزل من عند
الله، وأن محمد صلى الله عليه وسلم اخترعه من عند نفسه، وقد ذكرت الآية أن المرتابين فى هذا القرآن الذى أنزله
الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، عليهم أن يأتوا بسورة مثله، ولو كانت هذه السورة التى يأتون كأقصر سورة من
القرآن المجيد، وفى قوله تعالى ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾. إشارة إلى أن العبد لا دخل له فيما أنزل عليه، لأنه لا يملك من أمر إنزاله
شيئا، وإنما هو عبد يطيع سيده ومولاه فيما أنزله عليه من غير أن يقدم أو يؤخر فيه
ومن غير أن يزيد أو ينتقص منه، ومن غير أن يتأخر لحظة واحدة فى إبلاغه للناس، لأن
ذلك هو شأن العبد وفى هذه العبارة الشريفة أبلغ رد على الذين ينكرون هذا القرآن،
ويدعون أن سيدنا محمدا قد افتراه على الله من عند نفسه، وبعد أن طلب الله إليهم أن
يأتوا بسورة من مثله عجزوا وبهتوا وأسقط فى أيديهم، وذهبوا يتخبطون ذات اليمين
وذات الشمال لأن مثلية القرآن فى معناه وفى مبناه وفى فحواه وفى نسقه وفى كشفه
للغيوب وتحدثه عن دقائق العلوم، وغرائب الفهوم، وتكلمه عن خفيات الضمائر والنفوس
وغير ذلك مما لم يفى به المقام لن يستطيع البشر أجمعون أن يأتوا بأقصر سورة من سور
القرآن المجيد تماثله وتحاكيه أو حتى تقاربه وتشابهه لأنه أي القرآن كلام الله
المقدس الذى أعجز به الانس والجن، وما زال هذا التحدى قائما إلى أن تنتهى هذه
الدنيا، قال تعالى: ﴿قُل
لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا
الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[6]. ولذلك فقد قال تعالى: ﴿وَادْعُواْ
شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. والشهداء هم الذين يزكون الإنسان
فى عمله أو قوله أو خلقه أويسجلون على الانسان عيبه وذنبه وسوء خلقه، ولكم لما قال
الله: ﴿وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم﴾. تبين أن هؤلاء الشهداء هم الذين يزكون المشهود لهم، وطلب الله منهم أن يدعوا
شهداءهم يعنى ليستعينوا بهم فى الإتيان بسورة من مثل القرآن الكريم، وهذا الأسلوب من
الله غاية فى التحدى والتعجيز لأنهم أى الكافرون مهما استعانوا بغيرهم من
المناصرين لهم والشهداء لهم لن يستطيعوا أن يأتوا بشئ مماثل للقرآن المجيد، وقوله
تعالى: ﴿مِّن دُونِ اللّهِ﴾. معناها واستشهدوا على ما تأتون به
بشهداء غير الله، ولا تقولوا إننا قد جئنا بكلام مماثل لما جئت به يا محمد، والله
يشهد على ذلك، لأن هذا الأسلوب منهم هو أسلوب التهرب والزيغ من الحق، وأسلوب
الجدال واللجاجة بالباطل، مع أنه لا يصح ذلك عقلا ولا جدلا لأن الله هو الذى
يتحداهم بكلامه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يستشهدون به على صحة باطلهم الذى يماثل القرآن فى زعمهم، ولذلك قال
لهم الله لا تستشهدوا بالله على سوء صنيعكم، وفساد أحلامكم التى تتوهمون أنها
صحيحة فى زعمكم، ولكن ادعوا كل من تستطيعون دعوته من جميع الكائنات وخاصة الإنس
والجن، فلن يملكوا لكم أى مساعدة فيما تذهبون اليه من الإتيان بكلام من تأليفكم
يماثل أقصر سورة من القرآن الكريم ولو شهدوا لكم بصحة ما جئتم به من الهراء
والمهاترات فإنها شهادة باطلة فى نظر العلم الصحيح والعقل السليم، وقوله تعالى: ﴿إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. يعنى فيما تدعونه
من أنكم تقدرون على معارضة القرآن والإتيان بمثله، فهاتوا ما عندكم واعرضوه على
العقلاء من الناس والحكماء والعلماء منهم وانظروا كيف تكون النتيجة، فأنهم يسفهون
أحلامكم ويستخفون عقولكم ويسخرون من كلامكم ويضربون به عرض الحائط، ولا يعتبرون له
وزنا لأنه لم يزد عن كونه زعيقا ونعيقا وعواء وتهريجا، ولذلك توعدهم الله وقرعهم
بقوله: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ
وَلَن تَفْعَلُواْ﴾.والمعنى فإن لم
تقدروا على معارضة القرآن والإتيان بأقصر سورة من مثله وقد وقع ذلك منكم بالفعل
وظهر عجزكم مع تضافركم، وتعاونكم على ذلك وأنتم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان،
حيث أن القرآن نزل بلغتكم يتحداكم فيما برعتم فيه وبلغتم فيه شأوا لم يبلغه أحدا
من قبله ولا أحد من بعد، فقد قامت عليكم الحجة، وحقت عليكم الكلمة وانهزمتم أمام
بلاغة القرآن، وفصاحته المدهشة، ولذلك فلا يمكنكم أن تفعلوا وتعارضوا القرآن بعد
ذلك، ولن يستطيع غيركم أن يفعلوا شيئا من ذلك وهم أقل منكم شأنا وأقصر باعا فى
مجال الفصاحة والبيان، وفى قوله تعالى: ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾. إعجاز للناس أجمعين وتحدى لهم فى كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، ولذلك
لم يرد عن أمة من الأمم أو شعب من الشعوب أن عارض القرآن على مدى ألف وربعمائة سنة
أو يزيد، والقرآن يزيد روعة وجلالا، ورقة وجمالا، وسلاسة وانسيابا، على جبين هذا
الزمن، وصفحة هذا الوجود طيلة هذه المدة، وما زال يتألق فى سماء الرفعة والكمال
آنا بعد آن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى ما شاء الله بعد ذلك، وبعد أن عجز
الكافرون عن معارضة القرآن، واستمر هذا العجز قائما إلى الآن وما بعد الآن إلى
الأبد قال لهم الله: ﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾. يعنى أبقوا على
أنفسكم وأشفقوا عليها وارحموها من كفركم وضلالكم واتقوا عذاب النار بالمسارعة إلى
الايمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذى أنزله عليه وبكل ما جاء فيه، لتنجو من عذاب النار الأبدى،
وهذه النار لا تقود بالأخشاب ولا بالغاز ولا بالكهرباء المتولدة من الطاقة، ولكن
توقد بالكافرين من الناس والحجارة نكاية فى الآلام المبرحة وزيادة فى الشقاء
المتسعر، فقد صار الكافرون وقودا تتسعرهم هذه النار، وياليتهم يتفحمون ويصبحون
ترابا كما هو شأن الوقود ولكنهم كلما احترقت جلودهم وابشارهم نبتت جلود مكانها فى
الحال ليذوقوا نكال هذا العذاب الأليم، ومن عجب أن المادة الثانية من وقود هذه
النار هى الحجارة، والحجارة كلما تسعرت فيها النار كلما توهجت واحمر جمرها من شدة
اللهب، وهذه الأحجار لا تتفتت لشدتها وصلابتها وهى ا؛جار أعدت مخصوصة لوقود هذه
النار، وإذا سمع إنسان له أدنى عقل أن اقوى القادر الذى خلقه من العدم أو خلقه من
المادة المعروفة سيعذبه بكفره فى نار وقودها الكافرون والحجارة ذاب قلبه وتفتت
كبده وتقطعت أوصاله من شدة الخوف الذى يحدث له من استحضار هذا المشهد الرهيب
والصورة المحزنة، وأشفق على نفسه وآمن وعمل صالحا، لأن فى قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾. بيان لشدة العذاب وفداحة الآلام التى تتسلط على الكافرين وتصب عليهم لأن
كلمة﴿أُعِدَّتْ﴾. تفيد ضخامة الإعداد وقوة المعد لها وقدرته الجبارة على تعذيب من كفر به
سبحانه بانواع من العذاب لم تخطر على بال إنسان، نسأل الله تعالى جلت قدرته أن
يحفظنا من النار ومن عذاب النار ومن كل عمل يقربنا إلى النار بجاه النبى المختار،
وأن يدخلنا الجنة مع عبادة المؤمنين الصالحين أنه مجيب الدعاء وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملاحظة
والقرآن الكريم إذا نادى الناس بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾. فإنما يعنى جميع الناس إلا إذا كانت هناك قرينة تخصص هذا النداء بناس
مخصوصين بأعينهم، وإذا خاطب القرآن الناس بهذا النداء فإنما يوجههم إلى قضية عامة،
وإلى حكم عام يشترك الناس جميعا فيه، مثل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي
وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا﴾.[7] وقول الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا﴾[8] أما إذا أراد الله
أن يخاطب المؤمنين ناداهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وما أكثر هذا
النداء للمؤمنين فى القرآن الكريم، وإنما يناديهم الله لينبههم إلى قضية خاصة من
قضايا الايمان، وإلى جزئية من جزئيات الاسلام، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.[9] ولم يناد الله على الكافرين الا مرتين فقط فى القرآن كله وهما قوله تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[10] وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ ﴾[11]
وذلك لأن القرآن عف عن كثرة مناداتهم بهذا
الوصف الشنيع إلا فى هذين الموضعين فإن الموضع الأول يكون فى يوم القيامة حيث
يتقدمون بالاعتذار إلى الله عن كفرهم فيرد الله عليهم طلبهم، ويناديهم بصفتهم التى
تأصلت فيهم واستولت عليهم، وكانت سببا فى رفض اعتذارهم كأن الله يقول لهم كيف
تكفرون بي وبما أرسلت إليكم ثم تعتذرون إلى اليوم، هذا شيء غير مستساغ وغير مقبول
شكلا وموضوعا، والنداء الثانى هو: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا
عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾[12] فقد أمر الله رسوله محمدا أن يقول لهم ذلك لأنهم كانوا يتهمونه بقولهم له
أنت الذى صبأت وكفرت بآلهتنا وآلهة أبائنا، ونحن على الدين الحق لأننا وجدنا
أبائنا عليه فارجع عن غيبك وعن كفرك إلى عبادة آلهتنا فأمره الله أن يقول لهم ﴿قُلْ يَا
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ إلى آخر السورة،
وذلك ليرد عليهم قولتهم واتهامهم له بالكفر عليه الصلاة والسلام، ويبين لهم أنهم
هم الكافرون لا هو، وقد استطردنا فى بيان هذه الملاحظة ليتيسر لمن يطلع على هذا
الكتاب رعاية ما أشرنا اليه فيها.
من كتاب : كيف يدعو الإسلام الناس إلى الله
لفضيلة الشيخ محمد على سلامة
مدير أوقاف بورسعيد الأسبق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق