Disqus for ومضات إيمانية

الأربعاء، 5 مارس 2014

مقام المحبة



خرج صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يتحدثون عن أنبياء الله السابقين ، وكان أصحابه ملهمين ، فما تحدثوا به هو الحقيقة التي اختارها الله ونزلت في كتابه المبين فقال بعضهم {عَجَباً إنَّ الله عز وجل اتّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلاً اتَّخَذَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ خَليِلاً وَقالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلاَمِ مُوسَى كَلَّمَهُ تَكْلِيما وقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى كَلِمَة الله وُروحُهُ. وَقالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ الله - فسمع الحبيب وهو في داره هذا الحوار فانشرح صدره وارتاح فؤاده لأنه علم أنهم يستكنهون الغيوب ويستلهمون العلوم من حضرة علام الغيوب عزَّ وجلَّ وهذا هو المطلوب فخرج عليهم فَسَلَّمَ وقال صلى الله عليه وسلم : وَقالَ: «قَدْ سَمِعْتُ كَلاَمَكُمْ وَعَجَبَكُمْ. إنَّ إِبْرَاهِيمَ خَليلُ الله وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ الله وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوحُ الله وَكَلِمتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وآدَمُ اصْطَفَاهُ الله وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ الله وَلاَ فَخْرَ}[1]

فمقام المحبوبية أغلى ما نحرص عليه ، وأثمن ما نقدم كل غالٍ وكل ضنين في سبيله ، لأننا نتمنى جميعاً أن نفوز بمحبة الله حتى نكون من أهل وراثة حبيب الله ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم ومن فضل الله علينا ومن كرم الله لنا أجمعين أن الله فتح لنا أبواباً لا عد لها ، كل باب منها إذا دخله الإنسان وصدق فيه يكون نصيبه أن يحبه الله والذي يريد أن يحبه الله ، ماذا يفعل؟

هناك أبواب كثيرة لذلك ، لكن الباب الأعظم والذي عليه المدار والذي هو أُسّ حياة الصالحين والأخيار والأبرار فلا يستغني عنه واصل ولا يستطيع أن يتركه عارف أو متمكن ، هذا الباب يقول فيه الكريم الوهاب عز وجل {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} البقرة222

هذا هو الباب : أن يكون من التوابين أو من المتطهرين لأنه كلام الله وقد بدأ الله كلامه بـ "إن" للتأكيد وإن كان كلام الله كما نعلم جميعاً هو كلام أكيد لأنه كلام الحميد المجيد عز وجل " التوابين والمتطهرين" ومن لطف الله بنا وإكرامه لنا أنه لم يقل أن الله يحب التائبين لأن كلمة التائبين تعني أن التوبة مرة واحدة ويُغلق الباب ، لكن " التوابين" بصيغة المبالغة معناها أن باب التوبة مفتوح

فكلما أذنب العبد ورجع إلى الله وجد الله فرحاً به ويخلع عليه ثياب محبته ، المهم أن يدّثر دائماً بلباس التوبة ، والظالم لنفسه هو الذي يظن أنه تجاوز مقام التوبة ولم يعد له نصيب في التوبة فيشتغل بأمر آخر ولا يرجع للتوبة ، والتوبة لا تفارق أي مقام ولا أي درجة ومنزلة لأن الحبيب الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول فيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَغْفِرُوا الله وَتُوبُوا إِلَيْهِ ، فَإني أَسْتَغْفِرُ الله وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ}[2]

وأرجو أن يلفت إخواني أنظارهم إلى هذا الحديث ويفهموه بعقل حثيث ، فإن أغلب الخلق فهموا من الحديث أن يستغفر الله في اليوم مائة مرة ، والحديث لم يشر إلى ذلك فقط ماذا قال حبيبي وقرة عيني صلى الله عليه وسلم؟

اسمعوا وعوا : أيها الناس توبوا إلى الله – وهذا شق- واستغفروه – وهذا شق آخر- ثم بين فعله وحاله فقال : فإني أتوب إلى الله – وهذا شق- وأستغفره في اليوم مائة مرة ، فالتوبة غير الاستغفار ، لأن الاستغفار عمل من أعمال الجوارح أو من أعمال القلب يتوجه به العبد إلى مولاه ، يستغفر الله وله بكل استغفار عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ويزيد الله لمن يشاء ، لكن التوبة لها أركانها ولها أحوالها ولها جمالاتها التي يجب على التائب أن يتجمل بها ليحبه الله ، فإن الله لم يقل إن الله يحب المستغفرين وإنما قال {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} البقرة222

صحيح أن التوبة في كل مقام من مقامات السير والسلوك إلى حضرة الله لها معناها ولها أحوالها ولها متعلقاتها لكنها توبة ، فمن الناس من يتوب من سيئاته ، ومن الناس من يتوب من طاعاته ، ومنهم من يتوب من غفلاته ، ومنهم من يتوب من وجوده ، ومنهم من يتوب من شهوده ، أحوال عالية ومقامات راقية ، والتوبة لا تفارق كمل العارفين طرفة عين ولا أقل ، حتى المقام الأعظم الذي فيه الحبيب الأكرم يبين سر هذه التوبة التي يتوبها فيقول صلى الله عليه وسلم في مقامه {إنَّهُ لَـيُغَانُ علـى قَلْبِـي، وإنِّـي لأَسْتَغْفِرُ الله فـي الـيومِ مِائَةَ مَرَّةٍ }[3]

وهذا حديث آخر غير الحديث الأول يبين لماذا يتوب ، إني ليغان على قلبي فاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة: أحد الصالحين قال: تحيرت في هذا الحديث وقلت في نفسي وما الغين الذي يغان به على قلب رسول الله؟ وكلمة الغين يعني الغطاء ، فنحن قد يغطي على قلوبنا الشهوات أو الحظوظ والأهواء أو الأوزار فقد بين الحبيب حالنا وقال في شأننا {إِنَّ الـمؤمنَ إِذَا أَذْنَبَ ذنباً كانتْ نُكْتةً سوداءَ فـي قَلْبِهِ ، فَإِنْ تابَ ونَزَعَ واسْتَغْفَرَ صُقِلَ مِنْهَا قَلْبُهُ ، فَإِنْ عادَ زَادَتْ حَتَّـى يَعْلَقَ بِهَا قَلْبُهُ ، فذلكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ الله فـي كِتَابِهِ }[4]
يعني الغطاء ، ثم تلى قول الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ{14} كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ{15}المطففين

فالران أو الغطاء الذي على قلوبنا سببه الذنوب كلما أذنب العبد ذنباً كان نكتة سوداء على قلبه ، ونكتة مع نكتة مع نكتة يكون الران أو الغطاء فيحجب العبد عن أنوار ذي الجلال والإكرام ، فيكون في الغفلة أو في وادي التيه أو في أرض القطيعة أو في مهاوي العصيان ، المهم أنه يكون في بعد عن حضرة الرحمن ، لأن الوصلة التي بينه وبين مولاه غطاها بالذنوب التي ارتكبتها نفسه ولم يتب منها إلى حضرة الله في هذه الحياة ، لكن رسول الله ليس له ذنوب والله هو الذي شهد بذلك وقال في كلامه المكتوب {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الفتح2

فاحتار الرجل الصالح ما الذي سيتوب منه رسول الله؟ فالصغار يتوبون من الذنوب ، ومن تاب وأناب وسلك طريق الأوبة إلى حضرة التواب وأخذ يتعبد ويتقرب بالنوافل لمولاه ، قد يتوب من تقصيره في الطاعات ، فلا يوجد من يستطيع أن يعبد الله حق عبادته حتى الملائكة الذين خلقهم الله فمنهم الراكع أبدا ومنهم الساجد أبدا ومنهم الذاكر سرمداً ، يقوم الساجدون يوم القيامة من سجدة واحدة منذ أن خلقهم الله وهم سجود فيها ، فيقولون سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، فمن منا يا إخواني من يعبد الله حق عبادته؟

إذا فهو يتوب من التقصير كحال أصحاب البشير النذير صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عنهم وقال في شأنهم {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ{17} وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{18} الذاريات

يستغفرون من رؤية التقصير في الطاعات لأنهم رأوا أنفسهم لا يستطيعون الإخلاص كل الإخلاص ولا الصدق كل الصدق ولا التوجه بالكلية بحضور الأرواح والقلوب والأجسام والهمم كلها في مناجاة رب البرية عند طاعته وعبادته عز وجل ومن يستطيع ذلك

أحد الصالحين وقع في ذنب فخرج سائحاً في صحراء المقطم وهو يردد ويقول :

من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط

فسمع قائلاً يقول:

محمد الهادي الذي ... عليه جبريل قد هبط

فلا يوجد غيره صلى الله عليه وسلم لكن الباقين كلهم ذنوب وعيوب وظلمات وأوزار



{1} سنن الترمذى ، عن ابن عباس .وتمامه (وأنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ الله لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ وَلا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ وَلاَ فَخْرَ )
{2} جامع الأحاديث و المراسيل ، عن أَبي بردةَ عن الأَغر
{3} سنن البيهقى الكبرى عن الأَغَرِّ الـمُزَنِـيِّ ورواه مسلـم فـي الصحيح عن يحيـى بن يحيـى وأبـي الربـيع الزهرانـي
{4} صحيح ابن حبان عن أبي هريرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق