الإسراء وتحقيق المجتمع الفاضل
ونحن في شهر الإسراء والمعراج نريد أن تصفح هذه الحادثة الجليلة وقراءتها بإمعان وتأنيّ فإن فيها الكثير والكثير مما لا نستطيع أن نحيط به في هذا الوقت القصير وقد رسم الإسراء والمعراج للمسلمين معالم المدينة الفاضلة والمجتمع المثالي النبيل الذي ننشده جميعاً ونتمنى أن نعيش فيه ولو أياماً قليلة وقد ظن أهل الكفر في عصرنا أن المجتمع الفاضل هو الذي يعمر بالبنايات ويشيد بالمنشآت وتقام أسسه على المال والثراء المادي والعلم العصري ونسوا أن ذلك كله لا يفيد إذا لم ينصلح الإنسان من داخله فهو الذي يعمر تلك البنايات وهو الذي يشيد تلك الإنشاءات وهو الذي يتولى تشغيل جميع هذه الهيئات
فلو لم يبني المجتمع نفسه هذا الإنسان على المكارم العالية التي جاءت بها الأديان فإنه يفسد في لحظة ما بناه الإنسان في آلاف الأعوام ما الذي يقيم لنا عمارة لا تتأثر بالزلازل ولا بالكوارث؟ ليس نوع الأسمنت ولا صنف الحديد ولا الرسم الهندسي إلا إذا صاحبها الضمير النقي عند التنفيذ لكن لو أحضرنا جميع مستجهزات العصر ولو أحضرنا الذين بنوا ناطحات السحاب بمعداتهم وتجهيزاتهم والمواد التي استخدموها في بنائهم ولم نستطيع أن نجهز الإنسان بضمير يراقب الديان فسيشيد بناءاً واهياً لأنه ينهب ويسرق الأساس والمعدات والتجهيزات أو لا يتقن العمل أو يجتهد في الغش وذلك أمر لا تصلحه قوانين الأرض وإنما قوانين خالق السماء والأرض.
مهما اجتهدنا في أي ميدان: مدارس مستشفيات جامعات مصانع هيئات وأقمناها على أحدث طراز عصري من الذي يُشغل الأجهزة؟ ومن الذي يدير الأعمال؟ إنهم هم أفراد هذا المجتمع وفيهم يقول الله {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}لم يقل يغيروا أنفسهم - لأن النفوس لا تتغير -ولكن يغيروا ما بها ولذلك عندما دعا حبيبه ومصطفاه ليفرض عليه وعلينا الصلاة كان أول شئ أمر به أن أمر ملائكته الكرام أن يوقظوه من النوم ويأخذوه إلى جوار الكعبة ويرقدوه على ظهره ثم شقّوا عن بطنه ويخرجوا قلبه ويضعوه في طست من ذهب ويخرجوا منه حظ الشيطان ويغسلوه بماء زمزم ثم جاءوا بطست مملوء إيماناً وحكمة وحشو قلبه به ثم ردوه إلى حاله.
وبدأ بعد ذلك حادث الإسراء وذلكم يا جماعة المؤمنين هو باب تحقيق المجتمع الفاضل ليس بالصلاة ولكن بتطهير القلوب من حظ الشيطان وما حظ الشيطان في بني الإنسان؟ الغش
والمكر والخداع واللؤم والخيانة والخسة والندالة والتهور، والجبن والحيل والنميمة والغيبة والمشي بين الناس بالوقيعة والهمز واللمز والغمز كل ذلك وغيره حظ الشيطان الذي دعا الرحمن إلى تطهير القلب منه قبل أن ينضم الإنسان إلى صفوف أهل الإيمان ماذا قال الله في ذلك ؟ اسمعوا واعوا {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} إذا تم ذلك كيف يكون وصفهم {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } لا تنفع قوة المؤمنين إذا كانت القلوب مملوءة بالغش والعيون يلوح منها الخيانة والفم يظهر عليه الابتسامة الخادعة الصفراء،
والقلوب تفكر في الحيل للاستيلاء على قلوب الضعفاء ويصبح شرار المجتمع شوكة في جانب الشرفاء لأنهم يستطيعون إقلاق مضاجعهم بشئ لم يجنوه أو ألم لم يرتكبوه فإذا منع إنسان شريف إنساناً شريراً من حق ليس له ما أسرع ما يذهب ليأتي بتقرير طبي مزور يلصقه بالشريف ويقيم عليه تهمة لا يدري لها ولا عنها شيئاً ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه لأنه تقرير طبي ولا يستطيع أن يفعل مثل ما فعل لأن ضميره يأبى عليه ذلك ماذا دهانا جماعة المؤمنين؟ أصبنا في ضمائرنا بأمراض عضال لا يصلح معها إصلاح القوانين لكن لا صلاح لها إلا بإصلاح القلوب ومراقبتها لرب العالمين فإذا علم المرء المؤمن الذي يغدر أنه يوم القيامة يكون كما يقول النبي { يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ: هَـٰذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ}[1] يمتنع عن الغدر خوفاً من الله لأنه ليس له هناك حيلة
تنجيه ولا شئ يدفع عنه إلا صدقه وعمله الصالح لله وإذا علم الخائن أن رسول الله كان يقول { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ }[2] ويقول في شأنها {لا يزال العبد يخون إخوانه حتى تهبط به في نار جهنم} يمتنع عنها حياءاً من الله وخوفاً من عقاب الله وإذا سمع أنس بن مالك الصحابي الجليل يقول: كان رسول الله لا يتركنا في أي مجلس إلا إذا قال {لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ }[3] [مرتين] علم أنه لا ينفع الإيمان ولو كان معه صلاة وصيام وزكاة وحج إلا إذا كان معه أمانة أمانة في العين وأمانة في الأذن فلا تطلع العين على العورات وأمانة في الأذن فلا تغير أو تزيد ما سمعته من كلمات لأهداف خبيثات وأمانة في اللسان فلا يقول ولا يشهد إلا لما يرضي الرحمن وأي شهادة تقولها بلسانك ولو تزكية لعبد من عباد الله إذا لم يكن يستحق هذه التزكية فتلك شهادة زور تستوجب لصاحبها الخلود في النار يوم النشور
فقد قال النبي لرجل يمدح أخاه بما ليس فيه كما نرى في زماننا من رجوع البعض إلى قاموس الألفاظ القديمة من الباشاوية والباكوية وغيرها ونقولها لمن يستحقها أو لا يستحقها فقال له { وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ }[4] ثم قال لهم مبيناً ماذا يفعلون لهؤلاء {احثوا التراب في وجوه المداحين}[5] أي الذين يثنون على الناس في أي موضع بقلمهم أو بلسانهم أو بأي أمر من أمورهم وليس فيهم فقد اعتبرهم دين الله وشريعة الله يشهدون شهادة زور يحاسبون عليها يوم يلقى المرء الله أخلاق الإيمان هي الترجمة العملية لمجتمع المدينة الفاضلة فقد رأى النبي بعد هذه الحادثة - حادثة شق الصدر - الأخلاق التي يحبها الله في صورة طيبة يفرح بها المؤمنون والمؤمنات والأخلاق التي يبغضها الله كالزنا وأكل مال اليتيم ظلماً
وأكل أموال الناس بالربا وغيرها في صورة قبيحة منفرة لماذا؟ حتى نعلم علم اليقين أن صلاح المجتمع بالبعد عن الأخلاق الخبيثة التي رآها في رحلة الإسراء والمعراج والتخلق بالأخلاق الطيبة التي رآها في رحلة الإسراء والمعراج فإذا فعلنا ذلك واجتمعنا في بيت الله كما اجتمع النبي مع الأنقياء من عباد الله - أنبياء الله ورسل الله وملائكة الله - وتقدم بهم للصلاة فأعلمنا أنه لا تنفع الصلاة إلا إذا اجتمعنا جميعاً في بيت الله كما اجتمع النبي مع أنبياء الله ورسل الله وملائكة الله على النقاء والصفاء والطهارة لله قال صلى الله عليه وسلم {الصَّلاَةُ مِكْيَالٌ مَنْ أَوْفى بِهِ وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِلْمُطَففِينَ}[6]
وقد قال أيضاً قال الله تعالى في حديثه القدسي {إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ الصَّلاةَ مِمَّنْ تَوَاضَعَ بِهَا لِعَظَمَتِي ولَمْ يَسْتَطِلْ على خَلْقِي ولَمْ يَبِتْ مُصِرّاً على مَعْصِيَتِي وقَطَعَ نَهَارَهُ في ذِكْرِي وَرَحِمَ المِسْكِينَ وابنَ السَّبِيلِ وأَلارْمَلَةَ ورَحِمَ المُصَابَ ذَلِكَ نُورُهُ كَنُورِ الشَّمْسِ أَكْلأُهُ بِعِزَّتِي وأَسْتَحْفِظُهُ مَلائِكَتِي أَجْعَلُ لَهُ في الظُّلْمَةِ نُوراً وفي الجِهَالَةِ حُلْماً ومِثْلُهُ في خَلْقيِ كَمَثَلِ الفِرْدَوْسِ في الجَنَّةِ}[7] أمر آخر أنبه نفسي وإخواني إليه إذا كان الله أحيا أرواح الأنبياء والمرسلين وأنزل الملائكة المقربين أجمعين حتى يؤدوا صلاة الجماعة مع رسول الله فهذا بيان لنا في أهمية الجماعة في بيت الله فقد تفشى في زماننا شئ من نفوسنا أو وساوس شيطاننا جعلنا لا نؤدي الجماعة إلا يوم الجمعة أو في رمضان وبين ذلك نؤديها في بيوتنا مع أن نبيكم قال {لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بالصَّلاَةِ فَتُقَامُ ثُمَّ آمُرُ رَجُلاً فَيُصَلِّي بالنَّاسِ ثُمَّ انْطَلِقُ مَعِي بِرجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوْتَهُمْ بالنَّارِ}[8]
همّ بأن يحرق بيوت الذين لا يؤدون الصلاة جماعة بغير عذر شرعي في بيت الله لماذا؟ لأهميتها لي ولك يكفي أنها يقول فيها {صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةِ الْفَذِّ - والفذ هو الرجل الذي ليس له نظير في عبادة الله - بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً}[9]
{ قالوا: وما الدرجة يا رسول الله؟ قال الدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض } [10] ويكفي أن صلاة الجماعة مقبولة على الدوام فلو صليت بمفردك لا يقبل الله من صلاتك إلا الجزء الذي حضر فيه قلبك وخشع لله فيه قال النبي{أَنَّ الرَّجُل لَيُصلِّي الصَّلاةَ، وَلَعَلَّهُ لا يَكُونُ لَهُ مِنْهَا إِلا عُشْرُهَا أَوْ تُسْعُهَا أَوْ ثُمْنُهَا أَوْ سُبْعُهَا أَوْ سُدْسُهَا ولا يكتب للمرء من صلاته إلا ما عقل منها }[11] وما الحل أيها وكلنا يعلم أن المشاكل لا تكثر إلا وقت الصلاة؟عليكم بالجماعة فإن الجماعة إذا كان فيهم رجل صالح يقبل الله صلاته ويقبل صلاة الجميع من أجله والجماعة كما ورد في الأثر إذا وصلت أربعين رجلاً لابد أن يكون فيها رجل صالح يحبه الله عرفناه أو لم نعرفه فصلاة الجماعة مقبولة على الدوام هذا إلى جانب أن الجماعة تستوجب شهادة المؤمنين يوم الزحام فإن المرء إذا تحير في أمره يوم القيامة ينذره الله ويقول له: ابحث عمن يشهد لك بالإيمان من الذي يشهد له؟ سألوا هذا السؤال للرسول فقال {إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ [أي يواظب على الصلاة] فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ }[12]
منقول من كتاب
[1] صحيح مسلم عن ابن عمر
[2] سنن النسائي الصغرى عن أبى هريرة
[3] رواه الطبرانى فى الكبير.
[4] رواه البخارى وأحمد عن أبي بكرة
[5] { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنْ نَحْثُوَ، فِي وَجُوهِ الْمَدَّاحِينَ، التُّرَابَ} (رواه مسلم وأحمد عن أبى معمر)
[6] جامع الأحاديث والمراسيل عن سلمان الفارسي.
[7] رواه البزار.
[8] سنن أبى داوود عن أبى هريرة.
[9] صحيح البخارى عن عبد الله بن عمر.
[10] رواه مسلم بلفظ { مَا بَيْنَ كُل دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}
[11] صحيح ابن حبان وسنن البيهقى الكبرى عن عبد الله بن عنمة
[12] رواه أحمد والترمذي والدارمى وابن ماجة عن أبى سعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق