نرى حتى داخل التجمعات، إن كان تجمعاً حول شيخ أو ولى أو عارف، أو تجمعاً حول حزب، أو تجمعاً حول أيِّ عصبية، بينهما أمور تدركونها جميعاً من النفوس، أمام الناس أخوة متآلفين، وإذا جالست أيَّ رجل منهم في غَيْبَةِ أخيه تعلم علم اليقين أنهم متشاكسون، وأن بينهما خلافات كما بين المشرق والمغرب!!! لماذا؟!! لأن كل رجل منهم يظن أنه استأثر بالنصيب الأعظم من العلم من العالم الذي يتبعونه، أو من البركة والنور من الشيخ الذي يلتفون حوله، وهو مسكينٌ لم ينظر بعين اليقين إلى ما معه، ولا ما مع غيره، فكيف ميَّز؟! وكيف جعل نفسه أميز؟! وكيف فرَّق؟! وكيف جعل هذا أقل من هذا، وهذا خيراً من هذا؟! إن هذا لا يكون إلا من عمى البصيرة، وطمس السريرة.
صفة الأتقياء الأنقياء
لأن التلاميذ المؤدبون الأجلاء يظنُّ كلُّ واحد منهم - في كل وقت وحين - أنه أقل إخوانه شأناً، وأنه أحقر الحقراء بينهم، وأنه أعصى العاصين في وسطهم، وأنه لولا وجوده فيما بينهم لحلَّتْ عليهم البركات من السماء وخرجت عليهم البركات من الأرض، فإذا امتنعت البركات يقول هذا لوجودي بينهم!!
وارجعوا إلى دواوين الصالحين واقرءوا هذه النماذج المضيئة لتعلموا ما كان عليه محمد رسول الله والذين معه، والسلف الصالح الذين مشوا بعدهم إلى يومنا هذا ...كلهم على هذه الكيفية، يقول في ذلك إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه: {كفى بالعبد شراً أن يرى الخير في نفسه والشرَّ في إخوانه}. فالعبد الذي يرى من نفسه الخير فقط، ويرى من إخوانه الشرور فقط، فهو أشرُّ الناس في هذا الوقت!!
إذاً ماذا نفعل؟ نرجع إلى ضابط الحبيب: {طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ} (سنن البيهقي عن أنس رضي الله عنه). المؤمن التقي النقي منشغل بعيبه، وليس عنده فضول وقت لينظر إلى عيب غيره فينتقده، وإذا وجَّهته يقول: لا أرى!! لأنه لا يرى إلا محاسن غيره وعيب نفسه، فينظر إلى محاسن إخوانه، وينظر إلى عيب نفسه ويحاول أن يُصلح نفسه. وهذه هي الطريقة السديدة لإصلاح النفوس، وبلوغها إلى مراضي حضرة القدوس عزَّ وجلَّ.
المريد الموفق
وأمرٌ آخر أعقد من هذا، يتساءل البعض: لي خمسة عشر عاماً، أو خمسة وعشرون عاماً ولا أرى ما يراه الصالحون وأسمعه عنهم!! ولا أحظى بالشفافية القلبية التي رأيتها فيهم وقرأتها عنهم!! ويسارع المسكين فينسب تأخره في ذلك إلى شيخه، أو إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم، أو إلى ربِّه عزَّ وجلَّ!! وهذه فرية تحتاج إلى توبة نصوح يبكي فيها الدم بدل الدمع، لأن الله قال عن الحبيب صلى الله عليه وسلم: ﴿َمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ [24التكوير]. ليس بخيلاً، ولكنك لم تبلغ المراد، ومتى بلغت المراد فُتحت لك كل كنوز المنعم الجواد عزَّ وجلَّ، غير أنك تفتش في عيب غيرك ولا تُفتش في عيب نفسك.
المريد الموفق الذي يفتش في عيوب نفسه ويسترشد بهَدْى شيخه في علاجها، والمريد غير الموفق الذي ينظر في عيوب غيره، وإذا لاطفه شيخه وأراد أن يُبَيِّنَ له بلطفٍ عن عيوب نفسه، دافع عن نفسه وزمجر واشتد، وظن أنه خالي من العيوب!! مثل هذا كيف تُكشف له الغيوب؟!! وكيف يطلع على المحجوب؟!! وهو كله عيوب، ولم يتبع نهج الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم.
يبلغ بعض المريدين في هذا الأمر أن يتعصب لرأيه الذي تُمليه عليه نفسه، حتى ولو كان مضاداً للرأي الصريح الذي أمره به شيخه، ومثل هذا لا يُفلح أبداً، وهذا كثير!! وشيخه إذا أمره بأمر يستضيء بكتاب الله، ويستبين بسُنة رسول الله، ويأمره ببيانٍ مُنَزَّهٍ عن الهوى، كما قال الله في حبيبه ومصطفاه وورثته على أثره صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [3-4النجم]. والوحىُ لرسول الله، والإلهام للصالحين - وهو نوع من الوحي يُلهمهم به الله جلَّ في علاه.
وقد يمتثل أمام الشيخ ويتظاهر بالخضوع والامتثال، فإذا انصرف أرغمته نفسه على المخالفة، وإذا أرغمته على المخالفة فتحت له باب التأويل ليؤول لنفسه، مع أنه لا ينفع التأويل في الأمر الواضح الصريح، (لا اجتهاد مع النص).
بل يظهر بعضهم – والعياذ بالله - فيكون صورة للشيطان بين إخوانه، فإذا سمع درساً مثل هذا وهو جالس بين إخوانه، وانتهى الدرس، وجالس إخوانه، وقدموه أو كبَّروه، يتظاهر بأنه أعلم بمراد الشيخ، فيقول لهم: الشيخ يريد بقوله ذلك كذا وكذا، فيُضل سعيهم ويُخيب رجاءهم لأنه حكَّم نفسه وفسَّر هذا الكلام بنفسه، وهم يظنون أنه من المقربين، وهو في هذا المقام مقرب إلى إبليس اللعين والعياذ بالله عزَّ وجلَّ، لأنه أول من فتح لنفسه باب التأويل: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾[76ص]. لو سلَّم لأمر ربِّ العباد وسجد لنجا وفاز، لكنه فسَّر وأوَّل، وهذه النفس الإبليسية.
أو يجتهد ويُصدر أوامر لإخوانه - ويظنون أن الشيخ كلَّفه بذلك - مع أن هذا من نفسه، وأهل الطريق لم يتعارفوا على ذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: {وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ} (سنن النسائي).
لا بد من المشاورة، وقد رأينا وسمعنا وعلمنا أن أهل الطريق حتى وهم في وسط الجموع كان أحدهم يضع فمه على أذن الشيخ ليشيره في أمر!! حتى لا يفعلوا شيئاً إلا عن أمره، لماذا؟ ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [65النساء].
قد يقول البعض: إنك بذلك تُغلق باب الاجتهاد، أقول: يا أخي إنك لم تبلغ رتبة الاجتهاد، أنت الذي تقيم نفسك في الاجتهاد، ولذلك تجتهد على غير صواب، فرتبة الاجتهاد يقول فيها الله: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [108يوسف].
وهذا هو الذي قال له رسول الله: {اسْتَفْتِ قَلْبَكَ} ( سنن الدارمي ومسند الإمام أحمد). لم يقل ذلك لكل أصحابه، لكنه قال ذلك لرجل وصل إلى هذا المقام، يقول في ذاك إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه:
استفت قلبك يا ذا القلب عن حِكَمٍ في الكون ظاهرة للعين في القلب
قلبٌ عن الحـقِّ يتلقى معارفــه هو الإمام إمــام الدين والقرب
من الذي يجتهد؟ الذي وصل إلى رتبة التلقي من رسول الله، والإلهام المباشر من حضرة الله جلَّ في علاه، أما غير ذاك فإذا نسي رتبة المريد، وأقام نفسه في أي أمر فهو بعيد، لأنه لم يمشي على المنهج الحميد الذي وضعه النبي السعيد صلوات ربي وتسليماته عليه، لذاك يزل ويضل ويبتعد ويظل طوال عمره على هذا المقام.
كما قيل لسيدي أحمد البدوي رضي الله عنه، وقد ذهب إليه مريد وسأله: يا سيدي أنا معك منذ كذا وكذا ولم أر ولم أشهد ما سمعته عن الصالحين، قال: تعال يا بني، وأخذه إلى الساقية التي كانت تُخرج الماء من البئر للوضوء لمن يريد أن يُصلي في مسجده، وكان يدير الساقية حمار، وقد وضعوا له غطاءاً على عينيه، فقال: يا بني إذا مشى هذا الحمار طوال اليوم، وأعطاه الله عزَّ وجلَّ اللسان وسألته: ما المسافة التي مشيتها؟ ماذا يقول؟ قال: يقول ثلاثين أو خمسين كيلو متراً. قال: فإذا كُشف الغطاء عن عينيه ماذا يرى؟ قال: يرى أنه لم يجاوز قدميه!! قال: كذاك المريد الذي لم يُكشف عن بصيرته الغطاء، ولم تُفتح له كنوز الفضل والعطاء من الله عزَّ وجلَّ.
الذي يُسمح له بالاجتهاد: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[22ق]. وكذا لا بد أن يعرض ما يراه - مع أنه مكاشفة – على شرع المجيد الحميد، فإن وافق شرع الله أمضاه، وإن لم يوافق شرع الله ضرب به عرض الحائط. قال الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: {إذا تعارض كشفُك مع الشريعة فاضرب به عرض الحائط، وقل: قد ضمن الله عزَّ وجلَّ لي العصمة في اتباع الشرع، ولم يضمنها لي في الكشف}.
إذاً أول شيء يجب أن يفعله المريد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [1الحجرات]. لا يقدم - في نفسه، ولا في صدره، ولا على لسانه - لنفسه ولا غيره رأياً يخالف رأى شيخه، أو يخالف هَدْى رسول الله، أو يخالف كتاب الله جلَّ في علاه. فإذا ائتمر بذلك وصار على ذلك - حتى في أهون الأمور - وصل إلى أعلى المقامات، وكلما كان أحرص كلما كان عند الله أرفع، وعند الحبيب صلى الله عليه وسلم أحظى، وكلما فرَّط زاد الغطاء، وحُرم العطاء لأنه دخل في قول الله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [23الجاثية].
أكتفي بهذا القدر من بيان العصبية. آفة العصبية وأمرها واسع، ومحيطها شاسع، واستراحة قصيرة ثم نأخذ آفة أخرى من الآفات.
وفقنا الله وإياكم لسلوك طريق البركات، والنهج على منهج سيِّد السادات، والعمل بشريعة الله في كل ما هو آت، وأن يجعل الله عزَّ وجلَّ عملنا بتوفيقه، وأن يسددنا لأصلح طريق ولخير منهج.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق