معنى التبرك:
البركة كما جاء في مختار الصحاح للجوهري 1/20 النماء والزيادة، والتَّبْرِيكُ الدعاء بالبركة ويقال بارَك الله لك وفيك وعليك وباركك ومنه قوله تعالى { أن بورك من في النار }, وقوله تعالى {و تَبَاركَ الله} أي بارك, و تَبَّركَ به تيمن به). اهـ
فالبركة: هي النماء والزيادة والكثرة , ومعنى التبرك: هو التيمن وطلب البركة. ثانياً: مشروعية التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، وهذا محل إجماع بين السلف والخلف، قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (هَذَا فِيهِ التَّبَرُّك بِآثَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَسَّهُ أَوْ لَبِسَهُ، أَوْ كَانَ مِنْهُ فِيهِ سَبَب، وَهَذَا نَحْو مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَأَطْبَقَ السَّلَف وَالْخَلَف عَلَيْهِ مِنْ التَّبَرُّك بِالصَّلَاةِ فِي مُصَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّوْضَة الْكَرِيمَة، وَدُخُول الْغَار الَّذِي دَخَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْر ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا إِعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا طَلْحَة شَعْره لِيَقْسِمهُ بَيْن النَّاس، وَإِعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِقْوَة لِتُكَفَّن فِيهِ بِنْته رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَجَعَلَهُ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ، وَجَمَعَتْ بِنْت مِلْحَانِ عَرَقَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَمَسَّحُوا بِوُضُوئِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَّكُوا وُجُوههمْ بِنُخَامَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْبَاه هَذِهِ كَثِيرَة مَشْهُورَة فِي الصَّحِيح، وَكُلّ ذَلِكَ وَاضِح لَا شَكّ فِيهِ).انتهى
وقد استند هذا الإجماع على أدلة كثيرة، فمن ذلك:
1- مارواه البخاري ومسلم, عن عِتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي فَإِذَا كَانَتْ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ عِتْبَانُ فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ فَقُمْنَا فَصَفَّنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ...).
والشاهد في الحديث قول عِتبان رضي الله عنه (فأتخذه مصلى) وفي إقرار النبي –صلى الله عليه وسلم- ومعنى قول عتبان هذا: لأتبرك بالصلاة في المكان الذي ستصلي فيه.
2- مارواه البخاري ومسلم أنه (كَانَ سَلَمَةُ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا).
والشاهد في الحديث هو تبرك سلمة رضي الله عنه بالصلاة في الموطن الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فيه.
3- مارواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي: ونصه كما في مسند أحمد: ( عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر فقال أتدري ما تصنع فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب فقال نعم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم آت الحجر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله)).
ورواه الحاكم 4/560 , وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي في التلخيص: صحيح)
قال الإمام الذهبي في معجم شيوخه ص55 عن ابن عمر: أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: كره ذلك لأنه رآه إساءة أدب.
وقد سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله فلم ير بذلك بأسا، ورواه عنه ولده عبد الله بن أحمد كما جاء سابقاً.
فإن قيل: فهلا فعل ذلك الصحابة ؟! قيل: لأنهم عاينوه حيا وتملوا به وقبلوا يده وكادوا يقتتلون على وضوئه واقتسموا شعره المطهر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن لما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل، ألا ترى كيف فعل ثابت البناني ! كان يقبل يد أنس بن مالك ويضعها على وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه وولده والناس أجمعين، ومن أمواله ومن الجنة وحورها.
ألا ترى الصحابة من فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: ألا نسجد لك ؟ فقال: لا , فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير لا سجود عبادة كما قد سجد إخوة يوسف -عليه السلام- ليوسف).
ثالثاً: التبرك بآثار الصالحين:
وإلى جواز التبرك بالصالحين ذهب الجماهير من المحدثين والفقهاء والأئمة قديما وحديثاً:
قال الإمام المحدث الحافظ الفقيه ابن عبد البر في التمهيد بعد أن ذكر حديثاً عن عبد الله بن عمر بن الخطاب: (وفي هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومقاماتهم ومساكنهم وإلى هذا قصد عبدالله بن عمر بحديثه هذا والله أعلم).
وقال الإمام ابن بطال المالكي في شرحه لصحيح البخاري: (قال المهلب: وفيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه: أنه من دُعى من الصالحين إلى شىء يتبرك به منه، فله أن يجيب إذا أمن الفتنة من العجب).
وقال الإمام حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: (كتاب أسرار الحج: ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته).
وقال الإمام الفقيهُ المحدِّثُ الحافظ أبو العبَّاس القرطبيُّ المالكي رحمه الله في كتابه المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم معقباً على حديث (كان يؤتى بالصبيان - إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فيبرِّك عليهم ويحنكهم- : (ويؤخذ منه التبرك بأهل الفضل، واغتنام أدعيتهم للصبيان عند ولادتهم).
وقال الإمام المحدث الفقيه يحيى بن شرف النووي في شرح مسلم معقباً على حديث إتيان أم قيس بنت محصن بابن لها لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيه استحباب تحنيك المولود وفيه التبرك بأهل الصلاح والفضل وفيه استحباب حمل الأطفال إلى أهل الفضل للتبرك بهم).
وقال الإمام النووي أيضاً معقباً على حديث تسابق الصحابة على فضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: (فَفِيهِ التَّبَرُّك بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَاسْتِعْمَال فَضْل طَهُورهمْ وَطَعَامهمْ وَشَرَابهمْ وَلِبَاسهمْ).
وقال الإمام المحدث بدر الدين العيني الحنفي في عمدة القاري شرح صحيح البخاري معقباً على حديث: (فيه الدلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين).اهـ
وقال الإمام المحدث الفقيه ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه المغني: (وكان إمامنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل , رضي الله عنه , من أوفاهم فضيلة , وأقربهم إلى الله وسيلة , وأتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم به , وأزهدهم في الدنيا وأطوعهم لربه , فلذلك وقع اختيارنا على مذهبه. وقد أحببت أن أشرح مذهبه واختياره , ليعلم ذلك من اقتفى آثاره , وأبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أجمع عليه , وأذكر لكل إمام ما ذهب إليه , تبركا بهم , وتعريفا لمذاهبهم )
وقال أيضاً في المغني: (وَيُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الصَّالِحُونَ وَالشُّهَدَاءُ; لِتَنَالَهُ بَرَكَتُهُمْ, وَكَذَلِكَ فِي الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِمَا {أَنَّ مُوسَى - عليه السلام - لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُدْنِيَهُ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ, قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ}
وقال الإمام الفقيه المرداوي الحنبلي في الإنصاف: (ويستحب للضيف أن يفضل - أي: يُبْقيَ - شيئا، ولا سيما إن كان ممن يتبرك بفضلته، أو كان ثم حاجة).
وقال الإمام ابن ملفح في كتاب الآداب: ( قال المروذي في كتاب الورع سمعت أبا عبد الله - أحمد بن حنبل - يقول قد كان يحيى بن يحيى أوصى لي بجبته فجاءني بها ابنه فقال لي فقلت رجل صالح قد أطاع الله فيها أتبرك بها قال فذهب فجاءني بمنديل ثياب فرددتها مع الثياب).
وذِكْرُ هذا من الإمامِ الحافظ الخطيب البغدادي هو إقرارٌ ورضى.
وذَكَرَ مثل ذلك عند ترجمته للإمام الرباني معروف الكرخي، فقد قال في تاريخ بغداد: (معروف بن فيروز أبو محفوظ العابد المعروف بالكرخي منسوب إلى كرخ بغداد كان أحد المشتهرين بالزهد والعزوف عن الدنيا يغشاه الصالحون ويتبرك بلقائه العارفون وكان يوصف بأنه مجاب الدعوة ويحكى عنه كرامات).
وحجة أهل العلم في جواز التبرك بآثار الصالحين هو القياس على التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصل مجمع عليه، وقد أقَرَّ هذا القياس واعتمده الجماهير من أئمة الإسلام كابن عبد البر والبغوي والنووي وابن قدامة المقدسي وغيرهم ممن سبق ذكرهم.
البركة كما جاء في مختار الصحاح للجوهري 1/20 النماء والزيادة، والتَّبْرِيكُ الدعاء بالبركة ويقال بارَك الله لك وفيك وعليك وباركك ومنه قوله تعالى { أن بورك من في النار }, وقوله تعالى {و تَبَاركَ الله} أي بارك, و تَبَّركَ به تيمن به). اهـ
فالبركة: هي النماء والزيادة والكثرة , ومعنى التبرك: هو التيمن وطلب البركة. ثانياً: مشروعية التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، وهذا محل إجماع بين السلف والخلف، قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (هَذَا فِيهِ التَّبَرُّك بِآثَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَسَّهُ أَوْ لَبِسَهُ، أَوْ كَانَ مِنْهُ فِيهِ سَبَب، وَهَذَا نَحْو مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَأَطْبَقَ السَّلَف وَالْخَلَف عَلَيْهِ مِنْ التَّبَرُّك بِالصَّلَاةِ فِي مُصَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّوْضَة الْكَرِيمَة، وَدُخُول الْغَار الَّذِي دَخَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْر ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا إِعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا طَلْحَة شَعْره لِيَقْسِمهُ بَيْن النَّاس، وَإِعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِقْوَة لِتُكَفَّن فِيهِ بِنْته رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَجَعَلَهُ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ، وَجَمَعَتْ بِنْت مِلْحَانِ عَرَقَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَمَسَّحُوا بِوُضُوئِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَّكُوا وُجُوههمْ بِنُخَامَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْبَاه هَذِهِ كَثِيرَة مَشْهُورَة فِي الصَّحِيح، وَكُلّ ذَلِكَ وَاضِح لَا شَكّ فِيهِ).انتهى
وقد استند هذا الإجماع على أدلة كثيرة، فمن ذلك:
1- مارواه البخاري ومسلم, عن عِتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي فَإِذَا كَانَتْ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ عِتْبَانُ فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ فَقُمْنَا فَصَفَّنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ...).
والشاهد في الحديث قول عِتبان رضي الله عنه (فأتخذه مصلى) وفي إقرار النبي –صلى الله عليه وسلم- ومعنى قول عتبان هذا: لأتبرك بالصلاة في المكان الذي ستصلي فيه.
2- مارواه البخاري ومسلم أنه (كَانَ سَلَمَةُ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا).
والشاهد في الحديث هو تبرك سلمة رضي الله عنه بالصلاة في الموطن الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فيه.
3- مارواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي: ونصه كما في مسند أحمد: ( عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر فقال أتدري ما تصنع فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب فقال نعم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم آت الحجر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله)).
ورواه الحاكم 4/560 , وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي في التلخيص: صحيح)
قال الإمام الذهبي في معجم شيوخه ص55 عن ابن عمر: أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: كره ذلك لأنه رآه إساءة أدب.
وقد سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله فلم ير بذلك بأسا، ورواه عنه ولده عبد الله بن أحمد كما جاء سابقاً.
فإن قيل: فهلا فعل ذلك الصحابة ؟! قيل: لأنهم عاينوه حيا وتملوا به وقبلوا يده وكادوا يقتتلون على وضوئه واقتسموا شعره المطهر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن لما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل، ألا ترى كيف فعل ثابت البناني ! كان يقبل يد أنس بن مالك ويضعها على وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه وولده والناس أجمعين، ومن أمواله ومن الجنة وحورها.
ألا ترى الصحابة من فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: ألا نسجد لك ؟ فقال: لا , فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير لا سجود عبادة كما قد سجد إخوة يوسف -عليه السلام- ليوسف).
ثالثاً: التبرك بآثار الصالحين:
وإلى جواز التبرك بالصالحين ذهب الجماهير من المحدثين والفقهاء والأئمة قديما وحديثاً:
قال الإمام المحدث الحافظ الفقيه ابن عبد البر في التمهيد بعد أن ذكر حديثاً عن عبد الله بن عمر بن الخطاب: (وفي هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومقاماتهم ومساكنهم وإلى هذا قصد عبدالله بن عمر بحديثه هذا والله أعلم).
وقال الإمام ابن بطال المالكي في شرحه لصحيح البخاري: (قال المهلب: وفيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه: أنه من دُعى من الصالحين إلى شىء يتبرك به منه، فله أن يجيب إذا أمن الفتنة من العجب).
وقال الإمام حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: (كتاب أسرار الحج: ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته).
وقال الإمام الفقيهُ المحدِّثُ الحافظ أبو العبَّاس القرطبيُّ المالكي رحمه الله في كتابه المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم معقباً على حديث (كان يؤتى بالصبيان - إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فيبرِّك عليهم ويحنكهم- : (ويؤخذ منه التبرك بأهل الفضل، واغتنام أدعيتهم للصبيان عند ولادتهم).
وقال الإمام المحدث الفقيه يحيى بن شرف النووي في شرح مسلم معقباً على حديث إتيان أم قيس بنت محصن بابن لها لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيه استحباب تحنيك المولود وفيه التبرك بأهل الصلاح والفضل وفيه استحباب حمل الأطفال إلى أهل الفضل للتبرك بهم).
وقال الإمام النووي أيضاً معقباً على حديث تسابق الصحابة على فضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: (فَفِيهِ التَّبَرُّك بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَاسْتِعْمَال فَضْل طَهُورهمْ وَطَعَامهمْ وَشَرَابهمْ وَلِبَاسهمْ).
وقال الإمام المحدث بدر الدين العيني الحنفي في عمدة القاري شرح صحيح البخاري معقباً على حديث: (فيه الدلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين).اهـ
وقال الإمام المحدث الفقيه ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه المغني: (وكان إمامنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل , رضي الله عنه , من أوفاهم فضيلة , وأقربهم إلى الله وسيلة , وأتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم به , وأزهدهم في الدنيا وأطوعهم لربه , فلذلك وقع اختيارنا على مذهبه. وقد أحببت أن أشرح مذهبه واختياره , ليعلم ذلك من اقتفى آثاره , وأبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أجمع عليه , وأذكر لكل إمام ما ذهب إليه , تبركا بهم , وتعريفا لمذاهبهم )
وقال أيضاً في المغني: (وَيُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الصَّالِحُونَ وَالشُّهَدَاءُ; لِتَنَالَهُ بَرَكَتُهُمْ, وَكَذَلِكَ فِي الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِمَا {أَنَّ مُوسَى - عليه السلام - لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُدْنِيَهُ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ, قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ}
وقال الإمام الفقيه المرداوي الحنبلي في الإنصاف: (ويستحب للضيف أن يفضل - أي: يُبْقيَ - شيئا، ولا سيما إن كان ممن يتبرك بفضلته، أو كان ثم حاجة).
وقال الإمام ابن ملفح في كتاب الآداب: ( قال المروذي في كتاب الورع سمعت أبا عبد الله - أحمد بن حنبل - يقول قد كان يحيى بن يحيى أوصى لي بجبته فجاءني بها ابنه فقال لي فقلت رجل صالح قد أطاع الله فيها أتبرك بها قال فذهب فجاءني بمنديل ثياب فرددتها مع الثياب).
وذِكْرُ هذا من الإمامِ الحافظ الخطيب البغدادي هو إقرارٌ ورضى.
وذَكَرَ مثل ذلك عند ترجمته للإمام الرباني معروف الكرخي، فقد قال في تاريخ بغداد: (معروف بن فيروز أبو محفوظ العابد المعروف بالكرخي منسوب إلى كرخ بغداد كان أحد المشتهرين بالزهد والعزوف عن الدنيا يغشاه الصالحون ويتبرك بلقائه العارفون وكان يوصف بأنه مجاب الدعوة ويحكى عنه كرامات).
وحجة أهل العلم في جواز التبرك بآثار الصالحين هو القياس على التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصل مجمع عليه، وقد أقَرَّ هذا القياس واعتمده الجماهير من أئمة الإسلام كابن عبد البر والبغوي والنووي وابن قدامة المقدسي وغيرهم ممن سبق ذكرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق