بركة رسول الله صل الله عليه وسلم
يخطئ كثير من الناس في فهم حقيقة التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم فيصفون كل من يسلك ذلك المسلك بالشرك والضلال كما هي عادتهم في كل جديد يضيق عنه نظرهم ويقصر عن إدراكه تفكيرهم وقبل أن نبين الأدلة والشواهد الناطقة بجواز ذلك بل بمشروعيته ينبغي أن نعلم أن التَّبرك ليس هو إلاَّ توسُّلاً إلى الله بذلك المُتَبَرَّكُ به سواء أكان أثراً أو مكاناً أو شخصاً أما الأعيان فلاعتقاد فضلها وقربها من الله مع اعتقاد عجزها عن جَلْبِ خَيْرٍ أو دَفْعِ شرٍّ إلا بإذن الله وأما الآثار فلأنها منسوبة إلى تلك الأعيان فهي مُشَرَّفَةٌ بشرفها ومُكَرَّمَةٌ ومُعَظَّمَةٌ ومحبوبةٌ لأجلها وأما الأمكنة فلا فضل لها لذاتها من حيث هي أمكنة وإنما لما يحلُّ فيها ويقع من خير وبرّ كالصلاة والصيام وجميع أنواع العبادات مما يقوم به عباد الله الصالحون إذ تتنزل فيها الرحمات وتحضرها الملائكة وتغشاها السكينة وهذه هي البركة التي تُطْلَبُ من الله في الأماكن المقصودة لذلك وهذه البركة تُطْلَبُ بالتعرض لها في أماكنها بالتوجه إلى الله ودعائه واستغفاره وتذكُّر ما وقع في تلك الأماكن من حوادث عظيمة ومناسبات كريمة تحرك النفوس وتبعث فيها الهمَّة والنشاط للتشبه بأهلها أهل الفلاح والصلاح وإليك هذه النصوص
1- عن جعفر بن عبد الله بن الحكم أن خالد بن الوليد فَقَدَ قلنسوة له يوم اليرموك فقال: اطلبوها فلم يجدوها فقال: اطلبوها فوجدوها فإذا هي قلنسوة خَلِقَةٌ – أي: ليست بجديدة فقال خالد: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فأبتدر الناس جوانب شَعْرِهِ فسبقتُهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالاً وهي معي إلاَّ رُزِقْتُ النصر[1] 2- وعن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي الخزرجى عن أبيه عن جده أبي أسيد وله بئر بالمدينة يقال لها بئر بضاعة قد بصق فيها النبي صلى الله عليه وسلم فهو يشربها ويتمين بها. رواه الطبراني ورجاله ثقات 3- قال الإمام البخاري بسنده: ثم إن عُرْوَةَ جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه قال: فو الله ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخامةً إلاَّ وقعت في كفِّ رَجُلٍ منهم فدلَّك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسري والنجاشي والله إن رأيت[2] ملكاً قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّداً والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له[3] وفيه طهارة النخامة والشعر المنفصل والتبرك بفضلات الصالحين الطاهرة ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة وبالغوا في ذلك إشارة منهم إلى الرَّدِّ على ما خَشِيَهُ من فرارهم وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحبُّ نبيه هذه المحبَّة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن به أنه يَفِرُّ عنه ويسلمه لعدوه؟ بل هم أشد إغتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ[4] 4- عن طلق بن على قال: خرجنا وفداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا فاستوهبناه من فضل طهوره فدعا بماء فتوضأ وتمضمض ثم صبَّه لنا في إداوة وأمرنا فقال لنا (اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بَيْعَتَكُمْ وأنضحوا مكانها بهذا الماء واتخذوها مسجداً) قلنا: إن البلد بعيد والحرَّ شديد والماء ينشف فقال (مدُّوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيباً)[5] وهذا الحديث من الأصول المعتبرة المشتهرة الدالة على مشروعية التبرك به وبآثاره وبكل ما هو منسوب إليه فإنه صلى الله عليه وسلم أخذ وضوءه ثم جعله في إناء ثم أمرهم أن يأخذوه معهم إجابة لطلبهم وتحقيقاً لمرادهم فلابد أن هناك سرًّا قويًّا متمكناً في نفوسهم دفعهم إلى طلب هذا الماء بخصوصه والمدينة مملوءة بالماء بل وبلادهم مملوءة بالماء فلِمَ هذا التعب والتكلف في حمل قليل من الماء من بلد إلى بلد مع بُعد المسافة وطول السفر وحرارة الشمس؟ نعم كل ذلك لم يهمهم لأن المعني الذي يحمله هذا الماء يهوِّن عليهم كل مشقة ألا وهو التبرك به وبآثاره وبكل ما هو منسوب إليه وهو لا يوجد في بلدهم ولا يتوافر على حال عندهم بل ويتأكد تأييده لهم صلى الله عليه وسلم ورضاه عن فعلهم بجوابه لهم لما قالوا: إن الماء ينشف لشدة الحر - إذ قال لهم (مدوه من الماء) فبين لهم أن بركته التي حلَّت في الماء لا تزال باقية مهما زادوا فيه فهي مستمرة متصلة عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال (أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت بجلجل من فضة فيه شَعْرٌ من شَعْرِ النبي صلى الله عليه وسلم - وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة - قال: فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمراء)[6] قال الإمام الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد بيَّنه وكيع في منصفه: كان جلجلاً من فضة صيغ صواناً لشعرات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عند أم سلمة والجلجل هو: شبه الجرس يتخذ من الفضة أو الصفر أو النحاس وقد تنزع منه الحصاة التي تتحرك فيه [/COLOR]فيوضع فيه ما يحتاج إلى صيانته[7] قال الإمام العيني: وبيان ذلك على التحرير: أن أم سلمة كان عندها شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم حمر في شيء مثل الجلجل وكان الناس عند مرضهم يتبركون بها ويستشفون من بركتها ويأخذون من شعره ويجعلونه في قدح من الماء فيشربون الماء - الذي فيه الشعر - فيحصل لهم الشفاء وكان أهل عثمان أخذوا منها شيئاً وجعلوه في قدح من فضة فشربوا الماء الذي فيه فحصل لهم الشفاء ثم أرسلوا عثمان بذلك القدح إلى أم سلمة فأخذته أم سلمة ووضعته في الجلجل فأطلع عثمان في الجلجل فرأي فيه شعرات حمرا (قوله : وكان إذا أصاب الإنسان إلى آخره) كلام عثمان بن عبد الله بن موهب: أي كان أهلي كذا فسره الكرماني وقال بعضهم: وكان - أي الناس - إذا أصاب الإنسان: أي منهم والذي قاله الكرماني أصوب يبين به أن الإنسان إذا أصابه عينٌ أو شيءٌ من الأمراض بعث أهله إليها أي: إلى أم سلمة مخضبة – بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة والباء الموحدة – وهي الإجانة ويجعل فيها ماء وشيء من الشعر المبارك ويجلس فيها فيحصل له الشفاء ثم يرد الشعر إلى الجلجل[8] روي مسلم عن حديث أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي مِنَي فأتي الجمرة فرماها ثم أتي منزله بمني ونح، وقال للحلاق: خذ - وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر - ثم جعل يعطيه الناس) وروي الترمذي من حديث أنس أيضاً قال (لما رَمَي رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة نحر نسكه ثم ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه فأعطاه لأبي طلحة ثم ناوله شقه الأيسر فحلقه فقال: أقسم بين الناس) ثم ظاهر رواية الترمذي: أن الشعر الذي أمر أبا طلحة بقسمته بين الناس هو شعر الشق الأيسر وهكذا رواية مسلم عن طريق ابن عيينة وأما رواية حفص بن غياث وعبد الأعلى ففيهما: أن الشق الذي قسمه بين الناس هو الأيمن وكلتا الروايتين عند مسلم وقد جاء في رواية حفص عند مسلم أيضاً بلفظ (فبدأ بالشق الأيمن فوزَّعه الشعرة والشعرتين بين الناس ثم قال بالأيسر فصنع مثل ذلك) وقال أبو بكر في روايته عن حفص (قال للحلاق: هاء وأشار بيده إلى الجانب الأيمن هكذا فقسم شعره بين من يليه. قال: ثم أشار إشارة إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه فأعطاه أم سليم ) وفى رواية أحمد في المسند - ما يقتضي: أنه أرسل شعر الشق الأيمن مع أنس إلى أمِّه – أم سليم – امرأة أبي طلحة فإنه قال فيها (لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بمني أخذ شق رأسه الأيمن بيده فلما فرغ ناولني فقال: يا أنس انطلق بهذا إلى أم سليم قال: فلما رأي الناس ما خصَّنا به تنافسوا في الشق الآخر هذا يأخذ الشيء وهذا يأخذ الشيء) وقد اختلفت الروايات في هذا الموضوع كما تري ففي بعضها أن الذي أعطاه لأبي طلحة هو الشق الأيمن والذي قسَّمه بين الناس هو الأيسر وفي بعضها النقيض وفي بعضها أنه أعطي الأيسر لأم سليم ويجمع بين هذه الروايات بما جاء عن صاحب المفهم (إن قوله: لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم شق رأسه الأيمن أعطاه أبا طلحة) ليس مناقضا لما في الرواية الثانية أنه قسم شعر الجانب الأيمن بين الناس وشعر الجانب الأيسر أعطاه أم سليم وهي امرأة أبي طلحة وهي أم أنس قال: وحصل من مجموع هذه الروايات أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لما حلق الشق الأيمن ناوله أبا طلحة ليقسمه بين الناس ففعله أبو طلحة وناول شعر الشق الأيسر ليكون عند أبي طلحة فصحت نسبة كل ذلك إلى من نسب إليه والله أعلم وقد جمع المحبُّ الطبري في موضع إمكان جمعه ورجح في مكان تعذره فقال: والصحيح أن الذي وزَّعه على الناس الشق الأيمن وأعطي الأيسر أبا طلحة وأم سليم ولا تضاد بين الروايتين لأن أم سليم امرأة أبي طلحة فأعطاه صلى الله عليه وسلم لهما فنسب العطية تارة إليه وتارة إليها انتهي وفيه التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من آثاره بأبي وأمي ونفسي هو وقد روي أحمد في مسنده إلى ابن سيرين أنه قال: فحدثنيه عبيدة السلماني يريد هذا الحديث فقال: لأن يكون عندي شعرة منه أحب إلى من كل بيضاء وصفراء على وجه الأرض وفي بطنها وقد ذكر غير واحد أن خالد بن الوليد كان في قلنسوته شعرات من شعره صلى الله عليه وسلم فلذلك كان لا يقدم على وجه إلاَّ فُتح له ويؤيد ذلك ما ذكره المُلا في السيرة أن خالداً سأل أبا طلحة حين فرَّق شعره صلى الله عليه وسلم بين الناس أن يعطيه شعر ناصيته فأعطاه إياه فكان مقدم ناصيته مناسباً لفتح كل ما أقدم عليه. انتهي[9] 6- عن عثمان عن أنس أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعاً فَيَقِيلُ عندها على ذلك النَّطع قال: فإذا نام النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أخذتْ من عَرَقِهِ وَشَعْرِهِ فجمعته في قارورة ثم جمعته في سُك وهو نائم قال: فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصي إلى أن يجعل في حنوطه من السُك. قال: فجعل في حنوطه[10] 7- وفي رواية عند مسلم دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندنا فَعَرَقَ وجاءت أمي بقارورة فجعلت تَسْلِتْ العَرَقَ فيها فاستيقظ فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عَرَقُكَ نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب 8- وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة (عَرَقَ فاستنقع عَرَقُهُ على قطعة أديم عتيدة فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها فأفاق فقال: ما تصنعين؟ قالت: نرجو بركته لصبياننا فقال: أَصَبْتِ) وفي رواية أبي قلابة (فكانت تجمع عَرَقَهُ فتجعله في الطيب والقوارير فقال: ما هذا؟ قالت: عَرَقُكَ أذوف به طِيبِي) ويستفاد من هذه الروايات إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على فعل أم سليم وتصويبه ولا معارضة بين قولها: إنها كانت تجمعه لأجل طيبه وبين قولها: للبركة بل يحمل على أنها كانت تفعل ذلك للأمرين معاً (انتهي)[11] [1] قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني وأبو يعلي بنحوه ورجالهما رجال الصحيح وجعفر سمع من جماعة من الصحابة فلا أدري سمع من خالد أم لا. (9/349) وذكره ابن حجر في المطالب العالية (ج4 ص90)، وفيه: يقول خالد: (فما وجهت في جهة إلا فتح لي) [2] أى ما رأيت [3] رواه البخاري في كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد (فتح ج 5 ص 330) [4] كذا في فتح الباري ج 5 ص 341) [5]رواه النسائي كذا في المشكاة (رقم 716) [6] رواه البخاري في كتاب اللباس باب ما يذكر في الشيب [7] وكذا في فتح الباري (ج 10 ص 353) [8] (عمدة القاريء شرح صحيح البخاري ج 18 ص 79) [9] عمدة القاريء شرح البخاري (ج 8 ص 230 – 231) [10] رواه البخاري في كتاب الاستئذان باب (من زار قوماً فَقَالَ عندهم)[11] فتح الباري الجزء الحادي عشر ص (72) الكمالات المحمدية_ط2 منقول من كتاب [الكمالات المحمدية] اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً | |
Islam is religion of peace
الأربعاء، 27 فبراير 2013
التبرك برسول الله صل الله عليه وسلم
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق