Disqus for ومضات إيمانية

الأحد، 22 سبتمبر 2013

مكانة رسول الله بين الأنبياء والمرسلين



مكانة رسول الله بين الأنبياء والمرسلين
عليهم الصلاة والسلام
الحمد لله الذي وهب رسله الكرام خيرًا كثيرًا، وعلمًا غزيرًًا، وحكمة عالية، وإصابة في الرأي، وسدادًا في الأمر، ونورًا وهدىً ورشادًا، لينقذوا البشرية من الشقاء والضَّلال البعيد إلى السعادة والنور والهدى، ومنح سيدنا ومولانا محمدًا من كل هذه المعاني أكملها وأجلَّها وأعظمها، حتى كان بحقٍّ نُورَ الله الموصل إلى الله، ورحمة الله العامة لجميع خلق الله.
وسنعرض عليك أيها المسلم ما يكشف لك عن هذه الهبات التي تفضل الله بها عليه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع الذي بين يديك.
1- قال سيدنا شعيب﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [89 الأعراف]. فقد طلب معجزة من الله ينتصر بها على قومه لما كذبوه وعادوه، وقد امتن الله على حبيبه محمد بقوله سبحانه:  ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ [1 الفتح]، فنصره الله على قومه، وعلى غيرهم، وفتح الله له القلوب فاهتدت إلى الإسلام، وكان هذا الفتح ظاهرًا للعيان، وعاماً في كل شأن، ومطلقاً من كل قيد.

2- دعا سيدنا نوح ربَّه فقال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [28 نوح]، ودعا سيدنا إبراهيم ربَّه فقال: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ  [41 إبراهيم]، وتفضل الله على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ  [2 الفتح].
فغفر الله له صلى الله عليه وسلم كل ذنب مقدمًا – حتى لا يتهمه أحد بذنب، لأن الله قد غفره له صلى الله عليه وسلم - يعني محاه وستره عن أهل السموات والأرض. فلم يرَ أحد منهم له - صلى الله عليه وسلم - ذنباً ولا عيبًا، فكيف يتهمه أهل الكفر والضلالة بعيب أو ذنب وهم لم يشهدوا عليه شيئًا من ذلك؟!!!! ولقد فضحهم الله وكذَّبَهم بهذه الآية الشريفة، ثم تفضل الله على رسوله بهذه المغفرة من غير طلب ولا سؤال منه صلى الله عليه وسلم، وهنا تظهر منزلة رسول الله التي أكرمه الله بها دون سائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
ولما أراد الله أن يعاتبه صلى الله عليه وسلم في إذنه للمنافقين بالتخلف عن الجهاد في غزوة تبوك، صدَّر هذا العتاب بقوله جلَّ شأنه ﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [43 التوبة]:
وهذا العفو الكريم يؤخذ في الاعتبار عند كل عتاب من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام، فإنه حكم عام في كل ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم من الأمور التي عاتبه الله عزَّ وجلَّ فيها، وليس لأي مخلوق في السموات أو في الأرض أن يعتب على رسول الله أو يعيب عليه، أو ينسب إليه أدنى شائبة، لأنه صلى الله عليه وسلم منزَّه عن كلِّ ما يجول بالخواطر من الشين أو العيب. وقد قال بعض العارفين في هذا المقام مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي       وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَلِدْ النِّسَاءُ
خُلِقْتَ مُـبَرَّءًا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ       كَأنكَ خُلِقْتَ كَمَـا تَشَـاءُ
ثم ما هو الذنب الذي غفره الله لرسوله عليه الصلاة والسلام، والذي جاء ذكره في قول الله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)؟!!! لم يذكر القرآن شيئًا عن هذا الذنب!!!
ولكن أراد الله بِهذا التعبير الكريم أن يقيم الحجَّة على المفترين، الذين يفترون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبون إليه بعض الزلات، فيقول لهم: قد غفرت له كل هفوة وكل ذنب سلفًا وقبل إدعاءكم عليه بما تقولون، فماذا أنتم فاعلون؟ وما هي نتيجة افترائكم عليه؟ ألا تخجلون؟!!!! ألا تستحيون من الله ورسوله؟!! وكيف تواجهون الله ورسوله؟!!!!
إن الله قد أحاط رسوله بسياج منيع من الكمال والجلال، فلم يقدر أحد على النيل منه صلى الله عليه وسلم، سرَّ قول الله تعالى: ﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [67 المائدة].
3-  إن الله أعطى رسوله صلى الله عليه  وسلم الشفاعة العظمى يوم القيامة ولم يعطها لأحد من الأنبياء والمرسلين، فإنه قد ورد في حديث شريف ما معناه:  {أن الناس يذهبون إلى الرسل والأنبياء ويسألونهم الشفاعة للنجاة ممَّا هم فيه من الأهوال والكروب، فيقول كلُّ نبيٍّ: لستُ لها، ويذكر خطيئته التي أصابها، حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها .. أنا لها، ويسجد بين يدي الله عزَّ وجلَّ، ويُثني عليه بمحامد لم يثن عليه بها من قبل. فيقول الله له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسْمَعْ لك، وسل تُعْطَ، واشفع تُشَفَّعْ. فيشفع رسول الله في الخلق أجمعين يوم القيامة}[1].  
فهذا الحديث الشريف يكشف لنا عن مكانته صلى الله عليه وسلم بين الرسل والأنبياء يوم القيامة.
4. دعا سيدنا سليمان عليه السلام ربَّه فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [35 ص]. فقد طلب من الله المُلك والتصريف في عالم الكون، وقد استجاب الله له وسخر له الريح، والإنس والجن، والوحش والطير، وغير ذلك من عالم الكون. وقد تفضل الله على حبيبه من غير طلب منه فقال له ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾  [5 الضحى].
أي: يعطيك كل ما تطلبه من الدنيا والآخرة حتى ترضى وتقرَّ عينُك ويبتهج قلبك، أو حتى ترضى عنَّا بما نعطيك، لأن رضاك عنَّا محبوبٌ لنا ومرادٌ لذاتنا. وهذه منزلة لم يمنحها الله لأحد من الأنبياء عليهم السلام. وكذلك يعطيك ربك من المزيد والإكرام ما لا يخطر على قلب أحد من الأنبياء والمرسلين.

5. دعا سيدنا إبراهيم عليه السلام ربه فقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [83 الشعراء]. أي هب لي أمرًا مطاعًا وحكمًا نافذًا بين عبادك، حتى أقيم دعائم الحقِّ فيما بينهم. وقد منح الله حبيبه التصريف المطلق في حياة المؤمنين وشؤونهم فقال سبحانه وتعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [6 الأحزاب].
فله صلى الله عليه وسلم الولاية المطلقة والرعاية الكاملة للمؤمنين، أكثر من ولاية أنفسهم لهم، فضلاً عن آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وأزواجهم وذوي قرابتهم. وقد أوضح القرآن هذا المعنى بصورة رائعة من البيان في قول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [128التوبة]، فإن رأفته ورحمته بهم أعظم من رحمتهم بأنفسهم.
6. دعا سيدنا إبراهيم ربه فقال: ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ﴾ [84 الشعراء]، أي اجعل لي ألسنة تذكرني بالخير والدعاء في الأمم القادمة، وقد استجاب الله له، وقام المسلمون بالصلاة عليه وعلى آله في كل صلواتهم. وأكرم الله حبيبه بقوله سبحانه: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ [218 ، 219 الشعراء].
فقد صار صلى الله عليه وسلم يتقلب في قلوب المؤمنين فلا يقدرون على التسلي عنه، لأنه محبوب قلوبِهم، ونور أبصارهم، ومراد نفوسهم، فهم يذكرونه أين كانوا وكيف كانوا، ويصلون عليه في كل وقت وحين، فقد ورد في معنى حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنَّ مِنْ أشدِّ النَّاسِ بُخلاً مَنْ ذُكرتُ عنده ولم يصلِّ عليَّ}[2]. 
 7. دعا سيدنا إبراهيم ربَّه فقال: ﴿وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾  [85 الشعراء]، وأكرم الله حبيبه ومصطفاه بقوله: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ  [1الكوثر].
وأعطيناك يعني: ملَّكناك، والكوثر: الخير الدائم المتكاثر باستمرار، أو هو نَهر في الجنة، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وألذ من أي شراب من مشروبات الجنة، لو تناول المؤمن منه شربة صار نشواناً في أعلى درجات النعيم من هذه النشوة.
وقد منح الله رسوله هذا الكوثر من الأزل من غير طلب منه ولا رجاء، وذلك هو غاية التكريم ونهاية التشريف، ولم يعطِ الله شيئاً من هذا الخير الأعظم لأحد من المرسلين قبله عليهم السلام، فهو عطاءٌ خاصٌ به صلى الله عليه وسلم، وإنه يأذن للمؤمنين بالشرب منه في الجنة إكراماً منه صلى الله عليه وسلم لهم.
اللهم اسقنا من يده الشريفة شربةً هنيئةً مريئةً لا نظمأ بعدها أبداً يا ربَّ العالمين.
8. دعا سيدنا موسى ربَّه فقال: ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾ ]25طه[، وذلك عندما كلفه الله بإبلاغ الرسالة إلى فرعون، فطلب من الله أن يشرح صدره للقيام بهذه المهمة الكبرى. وقد أمتن الله على رسوله بقوله:  ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [1 الشرح]أي قد شرحنا لك صدرك ووسعناه لكل شيء من أمور الدين والدنيا، حتى وَسَعْتَ الناس جميعاً بحلمك وعفوك، ورحمتك وعلمك، فقد وجد كلُّ كائن مكاناً له في صدر رسول  الله صلى الله عليه وسلم.
أو قد شرحنا لك صدرك، يعني: بيَّنا لك فيه كل شيء من أمور الحياة الدنيا وأمور الآخرة، حتى كان صدرك كتاباً فيه ما كان وما يكون وما هو كائن من عالم الغيب والشهادة، فلم يكن هناك شيءٌ يخفى عليك من أمر الدنيا والآخرة، وإنك قد بيَّنت للناس – على قدر ما تتحمله عقولهم – من الذي علمناه لك، وشرحناه لك في صدرك. فكان انشراح صدره صلى الله عليه وسلم عامًا ومطلقاً، وليس مقيداً بتبليغ الدعوة فقط. فالفرق واسع جداً بين سيدنا موسى عليه السلام وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9. دعا سيدنا موسى ربَّه فقال: ﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي  ]26 طه[، وقال الله لحبيبه: ﴿ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ  [2 الشرح].
أي حملنا عنك كل أمر يهمك فلا تبتئس به. وهذا التعبير من الله عزَّ وجلَّ أكبر وأعظم من قوله تعالى: (ويسرنا لك أمرك)، لأن تيسير الأمر هو تذليله وتسهيله بخلاف وضعه عنه، يعنى إراحته منه بالمرة. وذلك غاية العطف والحنان والوداد من الله عزَّ وجلَّ لحبيبه ومصطفاه.
10. دعا سيدنا موسى ربه فقال: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي  [27، 28طه]، حتى أستطيع إبلاغ الدعوة إلى فرعون وقومه، وتفضل الله على حبيبه فقال: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ﴾  [58 الدخان]أي جعلنا لسانك رطبًا وجاريًا بالقرآن، وسلسًا به، حتى تَحَيَّرَ البلغاء والفصحاء من عذوبة منطقك، ورقِّة أسلوبك، وعظمة بيانك، وفخامة تعبيرك. وهذا العطاء كلُّه كان من الله لرسوله من غير طلب ولا سؤال.
11. دعا سيدنا موسى ربه فقال: ﴿ وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾ [29، 32 - طه]. فقد طلب سيدنا موسى من الله أن يعينه بأخيه هارون عليه السلام، فاستجاب الله له. وقد امتن الله على رسوله فكفاه وأعانه بنفسه جلَّ شأنه وقال له: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ ﴾ [64 الأنفال]، فلم يؤازره سبحانه بأحد سواه، إجلالاً لقدره، وإعظامًا لعلاه صلى الله عليه وسلم 
12. دعا كلُّ نبيٍّ على قومه لما كذبوه وحاربوه، ولم تُجْدِ فيهم  النصيحة والإرشاد، فأهلكهم الله وانتقم منهم لرسله وأنبيائه عليهم السلام. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد إيذاء قومه له، يدعو لهم بالهداية ويقول: {اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون}. وكان الملائكة الموكلون بالخسف والإغراق والإهلاك يستأذنون رسول الله في إهلاك قومه – عندما عادوه واضطهدوه – فكان رسول الله يقول لهم: لا تفعلوا إني أنتظر أن يُخرج الله من أصلابِهم من يوحِّد الله ويعبده، فكانت الملائكة تقبِّل رسول الله بين عينيه، ويثنون عليه بقولهم: (صَدَقَ مَنْ سَمَّاكَ الرَّءوفَ الرَّحِيم). 
13. اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وموسى كليمًا، وعيسى وجيهًا، وآدم صفيًا، وإسماعيل رضيًا - عليهم السلام. واتخذ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حبيباً. وليس هناك مقامٌ فوق مقام الحبيب في الرفعة والتقريب.
14. أرسل الله كلَّ نبيٍّ إلى قومه خاصة، وبعث الله سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، بل أرسله إلى الإنس والجن، لأنه صلى الله عليه وسلم قدر الثقلين، فقد منحه الله طاقة تكفيهم وتفيض عنهم.
15. كانت رسالات الأنبياء مؤقتة بزمان حياتهم، لأنها كانت تعالج أمراضاً خاصة بأقوامهم. ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم الدين، لأنها الرسالة العامة والكاملة، وقد تضمنت علاج الأمراض التي تصيب البشرية، وحلَّ المشاكل التي تنشأ فيها – إلى يوم القيامة.
16. كان كلُّ نبيٍّ يرسل الله بعده نبيًّا آخر، وقد جعل الله سيدنا محمداً ختامًا لجميع الأنبياء والمرسلين فلم يعقبه نبيٌّ إلى يوم القيامة. أما نزول سيدنا عيسى عليه السلام في آخر الزمن فإنه لن ينزل برسالة جديدة، وإنما ينزل مؤِّيداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعًا له. ويقتدي بإمام المسلمين القائم وقت نزوله من السماء عليه السلام.
17. كان كلُّ نبيٍّ سببًا في إهلاك قومه لكفرهم به وتكذيبهم له، ورسول الله كان حياة لجميع الناس، وخيراً وبركة عليهم، لأنه رحمة الله للعالمين، ونعمته الكبرى للمؤمنين.
18. دعا سيدنا عيسى لنفسه فقط ولم يتذكر أحدًا من الناس – حتى والدته التي عانت الآلام من أجله – فقال في دعائه:  ﴿ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا  [33 مريم]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حيَّاه الله بالسلام في حظائر القدس الأعلى ردَّ التحية على نفسه وعلى جميع عباد الله الصالحين فقال: {السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين}، وذلك لأنه رحمة الله العامة للعالمين، وهو الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، وهم عباد الله الصالحون.
19. دعا سيدنا نوح على جميع الكافرين فأهلكهم الله فقال في دعائه: ﴿ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا   [26نوح]، ورسول الله قال لملك الجبال – عندما أراد أن يطبق الجبلين على أهل مكة فيهلكهم جزاء كفرهم وإيذائهم لرسول الله – فقال له: اتركهم فإن لم يكن فيهم خيرًا فإني أنتظر أن يخرج الله من أصلابهم ذريةً تؤمن بالله وتعبده. فكم يكون الفرق بين سيدنا نوح وبين سيدنا محمد عليهما السلام؟!!!!
20. أقسم الله بحبيبه في القرآن المجيد، ولم يقسم بنبي سواه، فقال سبحانه: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ  [72 الحجر]، وذلك لعظمة مقداره عند الله. ومعنى هذا القسم: بحق حياتك عندنا يا محمد إن الكافرين لفي غفلتهم وضلالتهم يتيهون ويتخبطون: ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ  [127النحل].
21. لقد صلَّى الله على النبيِّ بذاته المقدسة، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [127النحل]، وقد سلَّم سبحانه فقط على جميع المرسلين، فقال عزَّ وجلَّ﴿ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ  [181الصافات].
والصلاة من الله على رسوله تكريمٌ وتشريفٌ له، وثناء عليه بما هو أهله - صلى الله عليه وسلم - والسلام من الله على المرسلين هو الأمان والهداية والرحمة. ولا يخفى عليك الفرق أيها المؤمن اللبيب، فقد كانت الصلاة من الله على رسوله خصوصية لذاته الشريفة، وكان السلام من الله سبحانه له ولبقية الرسل الكرام، فهو صلى الله عليه وسلم مشتركٌ معهم في تسليم الله عليهم، وانفرد عنهم بصلاة الله وملائكته عليه أزلاً وأبداً.
22. دعا سيدنا إبراهيم ربه فقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ  [83 الشعراء]،  يعني: آتني الحكمة والأحكام لأهدي بها الناس إليك. وقد تفضَّل الله على حبيبه بقوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [89 النحل]وكان هذا من غير طلب ولا سؤال منه صلى الله عليه وسلم، ولكن الله هو الذي ابتدأه بهذا العطاء الكبير.
23. كان ذِكْرُ سيدنا يونس في بطن الحوت: ﴿ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ  [87 الأنبياء]، وهذا الذكر توحيد وتسبيح منه لله سبحانه وتعالى واعتراف إليه بخطيئته، وقد أمر الله حبيبه أن يقول (الله) فقط، في قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللّهُ ﴾ [91 الأنعام]. وذلك لأن مقام الحبيب هو ذكر محبوبه وتقديسه، وتعظيمه وتمجيده فقط، دون أي ذكر آخر، بخلاف مقام سيدنا يونس، وشتان بين الحضرتين!! ويا سعادة من ذاق طعم المشهدين، فسيدنا يونس ضارع متبتل في اضطرار، وسيدنا رسول الله محبوب لذات الله ومختار، وذاكر لله عزَّ وجلًَّ في حضرة المجد والإعظام.
24. دعا سيدنا موسى وسيدنا هارون فقالا: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى  [45 طه]، خوفًا من فرعون – لعنه الله، فأمَّنهما الله بقوله: ﴿ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى  [46 طه]. وامتن الله على حبيبه بقوله: ﴿ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ  [67 المائدة].
أي يمنعك ويحفظك من شرهم وأذاهم، فلن يقدروا على ضُرِّك وأذيتك، ولن يصل إليك منهم ما تكرهه. والفرق عظيم جدًا بين من طلب الحفظ والوقاية من فرعون، وبين من عصمه الله من جميع الناس وفيهم آلاف الفراعنة والجبابرة.
25. دعا سيدنا موسى ربه قائلاً: ﴿ هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾ [30، 32 طه]، فقد طلب من الله أن يمدَّه ويشدَّ أزره بأخيه هارون عليه السلام، وأن يجعله قسيمًا له وشريكًا له في شأن الرسالة والدعوة، حتى يقدر على توصيلها إلى فرعون وقومه، فاستجاب الله له بقوله سبحانه: ﴿ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴾ [36 طه].
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمره الله بدعوة الناس إليه لم يطلب معينًا ولا مشيرًا ولا رفيقًا، وإنما توجه من فوره لبث الدعوة في نفوس الناس، واستمالتهم إلى الإيمان والإسلام سرًّا، حتى أذن له الله في الجهر بالدعوة، وقال الله على لسانه صلى الله عليه وسلم مبيِّناً حاله وشأنه آنذاك: ﴿ إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ﴾ [196الأعراف]، فلم يكن له وليٌّ ولا معينٌ في جميع أموره غير الله سبحانه وتعالى. فكم يكون الفرق بين المقامين؟!!
قد أمر الله جميع الأنبياء بالإيمان برسول الله ونصرته ومتابعته، وذلك في الميثاق والعهد الذي أخذه الله عليهم له صلى الله عليه وسلم حيث قال جلَّ شأنه : ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ [81آل عمران]. وهذا تكريم وتفضيل له صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين وإظهار لمقامه الأعلى بينهم.
26. قد بعث الله رسوله مصدقًا لجميع الأنبياء والمرسلين، ومنصفًا لهم مما نسبه إليهم أقوامهم واتهموهم به، حتى كان شاهدًا على صدقهم وأمانتهم، وتبليغهم دعوة الله عزَّ وجلَّ لأقوامهم. والشاهد له فضلٌ كبير على من يشهد له، لما يترتب على شهادته من الخير العظيم، لأن الشهادة لصاحبها على من يشهد له أو عليه ولايةٌ وتعزيزٌ وتأييدٌ من الشاهد لمن يشهد له، وهذه منزلة اختص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم وشرفه بها على المرسلين. قال الله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا﴾ [41 النساء]. 
27. قد جعل الله حبيبه أول الأنبياء خلقًا وآخرهم بعثًا، لأنه صلى الله عليه وسلم مراد الذات الأحدية من الأزل، وهو الصورة التي اكتملت فيها مباهج الحسن والجمال القدسي، وتتوَّج فيها الكمال والجلال الرحماني، حتى أفرده الله بهذه الخصوصية دون سائر الأنبياء والمرسلين، وأخبر عنها صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الشريف: { كنت أَوَّلَ النبيين في الخلق وأخِرَهُمْ في البعث }[3]
وقد نوه القرآن الكريم بهذا المقام الأجل، فقال عزَّ شأنه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا. رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [10، 11الطلاق].
ولقد كشفت هذه الآية الشريفة عن حقيقة الذكر الذي أنزله الله وفرضه على المؤمنين، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان قائماً بين يدي الله في حضرات القدس الأعلى، فأنزله الله منها ليخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور، وليكون ذكراً لهم بعد ذكر الله عزَّ وجلَّ، فإن المؤمنين إذا ذكروا الله يقولون في ذكرهم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وقد زاد الله أمر رسوله إيضاحًا فقال جلَّ شأنه: ﴿ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ﴾ [15، 16المائدة].
فالنور هو رسول الله، والكتاب هو القرآن، وقد سطع هذا النور على الكتاب فكشف ما فيه، وبيَّن خافيه، حتى انبلجت غوامضه، واتضحت أسراره، وتبلورت أحكامه وآدابه، وقد صار هذا النور صلى الله عليه وسلم والكتاب – أي: القرآن – شيئاً واحداً في هداية الخلق إلى الإيمان والإسلام. فلو أردت أن ترى القرآن يتحرك ويمشي بين الناس لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يهدي الناس إلى الله عزَّ وجلَّ، ويأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم!!!
وقد كشف القرآن هذا الأمر في مواضع كثيرة – غير ما تقدم ذكره – تزيد عن الحصر، فقد ورد في سورة النساء قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ﴾ [174النساء].
فالبرهان الذي جاءنا هو القرآن المجيد – لأنه الدليل الواضح، والحجة البالغة، والمعجزة الباهرة – والنور الذي أنزله الله إلينا ليبين لنا القرآن هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن الرسول من عند الله كما أن القرآن عند الله. وقد كان النبيُّ يضيء في العالم الأعلى بعلومه وأسراره وأنواره، إلى أن أراد الله أن يشرق هذا النور على أهل الأرض، ليغيثهم به كما أغاث به أهل السموات، فأنزله الله عزَّ وجلَّ إليهم فضلاً منه سبحانه وتعالى، ورحمة منه عزَّ شأنه بعباده.
 28. قال الله لسيدنا سليمان عليه السلام: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [39 ص]، وذلك بعد أن سخَّر الله له الريح والشياطين حسب طلبه، فقد قيَّد الله هذا العطاء بهذه الأشياء. وقد امتن الله على حبيبه بقوله: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [1الكوثر].
ومعنى أعطيناك: ملكناك، والمالك للشيء له مطلق حرية التصرف فيه. والكوثر: هو الخير الذي لا نهاية له، وهو متكاثر دائماً وأبداً في الدنيا والآخرة، ورسول الله يعطي من هذا الكوثر كيفما شاء، وحسبما يريد، لأنه مِلكٌ خاصٌ له صلى الله عليه وسلم.
29. أقسم الله بمكة لأن رسول الله مقيم فيها، فقال جلَّ شأنه: ﴿ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ ]1،2البلد]، يعني: أُقسم بمكة حال إقامتك بها، ولولا إقامتك بها ما أقسمت بها، وإن الله سبحانه يقدس الأماكن ويعظمها بمن يسكنها وينزل فيها. وفي هذا إشارة عجيبة لمعان جلت عن البيان، وسمت عن التبيان.
30. أقسم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم﴿ وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [1 :3الضحى]. فقد أقسم الله له بآيتين عظيمتين من آيات الليل والنهار، بأنه جلَّ شأنه ما ودعه، وأنه ما قلاه. ومعنى (ودَّعه): أسلمه إلى غيره وتركه، ومعنى (قلاه): هجره وأعرض عنه. فأقسم الله له بأن شيئاً من ذلك لم يكن، وفي هذا غاية التكريم والإجلال، ونهاية التشريف والإعظام له صلى الله عليه وسلم. ولم يقسم الله عزَّ وجلَّ لأحد غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
31. إتخذ الله عزَّ وجلَّ سيدنا محمداً حبيباً لذاته العليَّة، وقد أخبر النبيُّ عن ذلك بقوله: { أنا حبيب الله } والحبيب هو الذي ينزله المحب منزلة نفسه، فقد قال عزَّ وجلَّ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ﴾ [80 النساء].
فقد جعل طاعته صلى الله عليه وسلم، طاعة لذاته سبحانه وتعالى، بل أقامه الله مقام نفسه في بيعة الرضوان الكبرى فقال سبحانه وتعالى﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [10الفتح]، وكذلك قد خلع الله عليه صلى الله عليه وسلم أسماءه وصفاته وسماه بها، فقال جلَّ شأنه: ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [128التوبة].
إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي تبيِّن لنا قدره العالي صلى الله عليه وسلم، ولم يحظ أحدٌ من الأنبياء والرسل الكرام بشيء من هذا المجد الأكمل، مع الاحتفاظ لكل منهم عليهم السلام بمكانته التي وهبها الله له. قال الإمام البوصيري رضي الله عنه:
فَاقَ النَّبِيينَ فِي خَلْقٍ وَفِي خُلُقٍ       وَلَمْ يُدَانُوهُ فِي مَجْدٍ وَلا كَرَمِ 
32. أثنى عليه الحقُّ جلَّ جلاله بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [4 القلم]، فقد أكد الله هذا الخبر بعدة أمور، منها:
كلمة ﴿ إِنَّ ﴾ التي تفيد أهمية الخبر عند المتكلم سبحانه وعند السامع، كما تفيد توكيده لدى المستمع بما لا يحتمل أدنى ريب.
وكذلك كاف الخطاب في ﴿ إِنَّكَ ﴾، فإنها تبين قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله تبارك وتعالى قرباً يفيد مشافهته بالحديث من الله مباشرة،
ومنها اللام في قوله تعالى: ﴿لَعَلى﴾ فإنها تفيد القسم، وكأن الآية تقول: (والله يا محمد إنك على خلق عظيم) ، وأيضًا كلمة (على) في قوله تعالى: ﴿ لَعَلى ﴾ فإنها تفيد التمكن من الشيء الذي يأتي بعدها، والتثبت منه، والاستعلاء عليه. وبذلك يكون صلى الله عليه وسلم، قد ملك الأخلاق الرفيعة، وصارت بعض كمالاته التي امتاز بها صلى الله عليه وسلم، بل صار هو مصدرها الذي تصدر عنه إلى الخلق أجمعين.
ولقد دلَّ التنوين في كلمتي: (خُلُقٍ) و.. (عظيمٍ) على الجلال والكمال الذي لا يتناهى فيهما، وأن الله عزَّ وجلَّ لم يثن على أحد من رسله وأنبيائه مثل هذا الثناء الجليل.
33. لقد أعطى الله كل رسول من الصبر على قدر ما بَلَّغَ رسالة ربِّه إلى قومه، حتى إذا نفذ صبره دعا عليهم فأهلكهم الله، وأمر الله حبيبه أن يصبر صبرًا مثل صبر أولي العزم من الرسل جميعاً، فقال له الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [35الأحقاف]، وذلك زيادة على صبره الخاص به صلى الله عليه وسلم، لأنه في قوة رسل الله كلهم، ولذلك كان رسولاً للإنس والجن أجمعين، ورحمةً عَمَّت جميع العالمين – عليه من الله أفضل الصلوات وأكمل التحيات وأعظم التسليم – وعلى آله وصحابته، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين آمين.
34. قال الله تعالى لسيدنا موسى ممتناً ومتفضلاً عليه: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [39 طه]، يعني وهبتك قسطًا ونصيبًا من محبتي، حتى أحبَّك فرعون وأهل بيته، فلم يقتلوك كما كانوا يقتلون جميع مواليد بني إسرائيل من الذكور.
ومعنى ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾: لتكرم وتحفظ من كل شرٍّ ومن كلِّ سوءٍ برعاية وعناية مني. وقد قال الله لحبيبه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾  [48 الطور]، أي اصبر على القيام بما أمرناك به من تبليغ الرسالة ودعوة الخلق إلى الله، واصبر لحكمنا وقضائنا وقدرنا الذي أمضيناه وقدرناه، (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) مرعيٌ ومحاط، ومُعَانٌ ومؤيد، وموفَّقٌ ومهديٌّ وهادي.
والأعين الإلهية: هي كل الأسماء والصفات، والكمالات والجمالات والجلالات الربانية. فشتان بين المقامين، وفرق كبير جدًا بين الحضرتين.
وقد ورد في الحديث القدسي ما معناه: (إن كنت اتخذت إبراهيم خليلاً، واتخذت موسى كليمًا، فقد اتخذتك حبيبًا)[4]
واتخاذ الله سيدًنا محمدًا حبيبًا لذاته جلَّ جلاله، أعظم وأجل من منحه سيدنا موسى عليه السلام محبَّةً منه عزَّ وجلَّ. ونكتفي بهذه الإشارة فإن فيها ما يغني اللبيب الألمعي عن البيان والعبارة، فقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
خُذْ مَا صَفَا لَكَ مِنْ إِشَارَةِ عَارِفٍ     فَالعَارِفُونَ كَلامُهُمْ يَشْفِي السِّقَام
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
**************
35. قال صلى الله عليه وسلم ما معناه: { لكل نبي دعوة مستجابة عجلت له في الدنيا، وقد اختبأت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة}[5]
فهذا الحديث الشريف يعطي أن الرسل والأنبياء عليهم السلام قد أكرمهم الله عزَّ وجلَّ باستجابة دعائهم لأنهم صفوة الله الأطهار وعباده الأخيار، وقد أفاد هذا الحديث الشريف أن الرسل والأنبياء كانت لكل واحد منهم دعوة خاصة دعا بها في هذه الحياة الدنيا، واستجابها الله له – وهذه خصوصية لهم عليهم السلام دون سائر البشر أجمعين – ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخرَّ دعوته الخاصة به إلى يوم القيامة، واختبأها لأهل الكبائر من أمته صلى الله عليه وسلم، فيدعو الله بها لهم في هذا اليوم العصيب، فيستجيب الله له ويقيهم من عذاب النار بفضل هذه الدعوة.
وذلك هو غاية العطف منه صلى الله عليه وسلم، والشفقة على أمته – وعلى أهل الأوزار منهم خاصة – وهذه الدعوة قد وعد الله عزَّ وجلَّ رسوله بإجابتها كما استجاب دعوة بقية المرسلين عليهم السلام وعجَّلها لهم في هذه الدنيا!! اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آله.
وهناك أسرار في هذا المشهد العالي لو كشف عنها الستار لازدادت أفراح كل مسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث الشريف يفيد مدى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته وعلى أصحاب الكبائر منهم، حتى تنعقد القلوب على محبَّته، والوفاء له والإخلاص لحضرته صلى الله عليه وسلم، كما يشير بوضوح إلى مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

من كتاب : قطرات من بحار المعرفة 
للعارف بالله فضيلة الشيخ
محمد على سلامة
مدير عام أوقاف بورسعيد الأسبق

 [1]  متفق عليه.
 رواه الترمذي وأحمد.[2]  
 [3]  رواه النسائي عن أبي هريرة.
[4]  رواه الترمذي والدارمي.
 [5]  رواه مسلم وأحمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق