كثر في هذا الوقت الحديث عن التصوف والصوفية، وظهر في الأفق كثير من المعترضين والذين ينظرون إلى مُدَّعى التصوف - الذين انشغلوا بالظواهر والمظاهر؛ ولم ينشغلوا بنور الله الواضح والباهر- وظنوا أن هؤلاء هم الصوفية واعترض كثيرون أيضا على الصوفية؛ بحجة أنه لا يوجد لهم أصل في الشريعة الإسلامية والملة الحنيفية.ونريد أن نجلِّى هذا الأمر، بوضوح، وببيان من القرآن وبسنة النبي العدنان، ومن الحياة العملية التي ربَّى عليها النبي المصطفى أصحابه في مكة والمدينة... في بدء دعوته وفى أول رسالته والصوفية يا إخواني تعنى باختصار شديد؛ العمل بما علمه الإنسان من دين الرحمن : .. أي الترجمة السلوكية والحياة العملية للآيات القرآنية، والتوجيهات النبوية.فآيات القرآن تدعو أهل القرآن إلى مقامات علية، وإلى أحوال مرضية رغّبت فيها الآيات القرآنية، والصوفية عاشوا هذه الحياة بأجسادهم، ونفوسهم، وقلوبهم، وأرواحهم؛ حتى يجدوا لذة الوصال، ويبلغوا مقامات الكمال، التي وضحها الله في قرآنه للرجال، فليست الصوفية: سفسطة، ولا فلسفة، ولا نظريات، ولا أقوال، وإنما هي: سلوك ،وأفعال، وأحوال. بعده ينظر الله إلى العبد؛ فيمنحه من عنده من معين فضله، أو من نور وصله، أو من ينابيع حكمه: ألوانا من الإتحافات الإلهية، والعطاءات الربانية؛ لا يستطيع أحد من الأولين والآخرين حصرها، وكلها من فضل الله.،قال تبارك وتعالى فى محكم الذكر (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)وأساس الصوفية هو ما فعله سيدنا رسول الله بذاته، عندما كان يخرج كل عام في شهر رمضان ليختلي بغار حراء، وتجهز له زوجته الصفية التقية النقية السيدة خديجة رضى الله عنها: زاداً يكفيه الشهر.وكان يختلي في هذا الغار مع الله، تارة يتفكر، وتارة يتدبر، وتارة يذكر الله، وتارة يتعبَّد على الملة الحنيفية - ملة إبراهيم عليه السلام -حتى قال أهل مكة في شخصه - قبل نزول الرسالة- لقد عشق محمدٌ ربه، وذلك من شدة شغله بالله ولذلك أكرمه الله بعد ذلك بالصفاء والنقاء، فقال عن هذه الفترة:أنه كانت الأحجار والأشجار والجبال تناديني باسمي وتقول يامحمد يامحمد، وورد فى ذلك الكثير من الأحاديث والروايات منها قوله :{ إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه الآن } وهذا كان قبل نزول الوحي. فكل من صفت روحانيته، واستنارت بشريته؛ كان ما فيه من الحقائق الراقية تخاطب وتسمع خطاب الحقائق ، قال تعالى فى [44 الإسراء]وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فمن صفا يسمع، ويفقه هذا التسبيح، ويسمع هذا الكلام، وإن كان بغير لسان ولا صوت ولا لهاة ولا شفتين، لكن الله إذا أراد فهو فعال لما يريد وهذا هو أساس التصوف.وبعد نزول الوحي على حضرته ‘ استمر على حالته فكــان يقوم الليل حتى تتورم قدماه؛ شكرا لله على عطاياه.وكان يصوم حتى يقولوا لا يفطر، وهو صيام الوصال.وكان كما قالت السيدة عائشة رضى الله عنها: يذكر الله على كل حال حتى وصل إلى حال قال فيه :{ تنام عيني وقلبي لا ينام } فكان لا يغفل عن ذكر مولاه، حتى وهو في حالة المنام، لماذا؟ .. لأنه استلذ طاعة الله ، ولم يضيِّع نفسا في غير ذكر مولاه وكان وقته كله وحاله كله مع مولاه(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ[162 الأنعام]. فكان قوله عبادة، وفعله عبادة، وأكله عبادة، وشربه عبادة، ونومه عبادة، حتى إتيانه لشهوته كان عبادة، وكل أفعاله حتى مزاحه كان عبادة:{ إني لأمزح ولا أقول إلا حقا } .
فترجم حياته كلها إلى عبادة لله ، ولما قال الله له، قل (وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام] استبق أحبابه وأصحابه في اتخاذ هذا النهج في حياتهم. فأسس النبي أول مدرسة في التصوف السلوكي والعملي في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكانت قريبة من الصفا الآن، وكان يجتمع فيها مع أحبابه الثلة المباركة ... وكانوا لا يتجاوزون الأربعين( ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ [الواقعة]وبدأ معهم في هذه المدرسة الحياة الصوفية الرفيعة .ومعنى الصوفية أي نشر الصفاء... لا نريد أن ندخل في هذا الاسم من أين جاء ؟ ولا أقوال الفلاسفة والحكماء ؟ لكن ندخل مباشرة على الصفاء: لأنه أساس الصوفية، فالصوفية كل همهم الصفاء، وبعد الصفاء يواجههم الله بخالص المنح والعطاء.متى يصلح الإنسان للعطاء ؟ إذا وصل وأشرف بنفسه وقلبه على مقام الصفاء؛ يأتيه الهناء من الله بالمنح والعطايا الإلهية؛ التي لا نستطيع أن نعدها حتى عدّاً؛ لأنها من الله .فمكث مع أصحابه في دار الأرقم بن أبى الأرقم؛ يؤهلهم لهذه المنح، ويجهزهم لهذه العطاءات؛ لأن عطاءات الله الخاصة بعباده المؤمنين، تهبط على القلوب، وتنزل على الأرواح....أما العطاءات والمنح والخيرات التي تتمتع بها الأجسام، والنفوس، والأشباح؛ فإن أمرها مباح للكافر والنافر،فالكل يتمتع بالخيرات الحسية، والمباهج الدنيوية، والمظاهر الظاهرة الأرضية، وربما يكون للكافر حظا أوفر من المؤمن فيها؛ لأن الله يربى عبده المؤمن، ويقول في ذلك سيد الأولين وإمام الموحدين :{ إن الله يحمى عبده المؤمن من الدنيا كما يحمى أحدكم مريضه من الشراب والطعام } .فالمريض إذا كان هناك طعام أو شراب يزيد الداء عنده، فإننا جميــعا نتلطف معه حتى لا يتناوله أملا في الشفاء.والله علم بعلمه المكنون أن الدنيا هي الداء الذي يصيب النفوس، فيحجبها عن مقامات الصالحين والأولياء؛ فيحمى المؤمنين من الدنيا لأنه يريد أن يكرمهم وأن يعطيهم وأن يمنحهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق