Disqus for ومضات إيمانية

السبت، 5 نوفمبر 2011

الصوفية فى القرآن والسنة



الْصُّوفِيَّةُ فيِ الْقُرْآنِ وَالْسُّنَّة

هناك حملات ضارية قديماً وحديثاً، ليس لها أساس من الدين ولا من العلم ولا من العقل السليم على الصوفية... والإنسان العاقل يحكِّم عقله في القضايا، فالقضايا يمنطقها بمقدمات تؤدي إلى نتائج، والإنسان صاحب الدين يتورع أن يفتي في أمر من قبل نفسه، أو من قبل هواه.... لكنه يعرضه على شرع الله، وعلى كتاب الله، وعلى سنة رسول الله ، ولا يقول إلا ما يوافق كتاب الله، وما يوافق سنة حبيب الله ومصطفاه. والإنسان الدارس في أي معهد علمي؛ يطبِّق المناهج العلمية على أي قضية علمية.ولو طبَّقنا المناهج العلمية؛ مثل: الملاحظة، والتجربة، والمشاهدة، وكيفية البحث العلمي السديد؛ نجد أن الأوربيين الذين تفوقوا على العالم كله في البحث العلمي يضعون قضية التصوف في مقدمة القضايا الثابتة علمياً، والتي يحتاج إليها الناس أجمعون للخروج من المشكلات وللتوازن النفسي ولإصلاح النفوس وزيادة مناعة الأجسام، ولتصفية القلوب، ولإعـلاء شأن المثل والقيم التي يتوقف عليها سعادة المجتمعات. أشياء كثيرة أثبتوها وسجَّلوها وموجودة عند كبريات الجامعات العالمية، لكن الأبواق الضالة التي تنعق على الصوفية - بدون حجة ولا دليل ولا برهان ولا أي منطق مقبول عقلاً أو مثبوت نقلاً - لا ترى ذلك ! فيجب علينا وينبغي علينا أن نرد على مثل هذه الأمور.
وقد يسأل سائل: وهل الصوفية موجودةٌ في القرآن والسنَّة ؟ نقول: نعم، وقد أثبتنا ذلك في هذا الكتاب ابتغاء مرضاة الله، وإظهارا للحقيقة لوجه الله جلَّ في علاه، ولا نريد بذلك غير رضاه. فعن طريق التصوف، يقول الإمام الغزالي :
" إن الطريق إلى ذلك إنما هــــو: تقديم المجاهدة، أو محــو الصفات المذمومـة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك: كان الله هو المتولِّي لقلب عبده، المتكفِّل له بتنويره بأنوار العلم.وإذا تولَّى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب، وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة، وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية.فليس على العبد إلا الاستعداد، بالتصفية المجردة، وإحضار الهمَّة، مع الإرادة الصادقة، والتعطش التام، والترصُّد بدوام الانتظار، لما يفتحه الله سبحانه وتعالى من الرحمة ".وعن هذا الطريق يقول ابن خلدون : " وقد كان الصحابة على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كثير منها، وتبعهم في ذلك أهل الطريقة، ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم ".هذا فيما يتعلق بالطريق، أما فيما يتعلق بالموضوع، والشعور، والأحوال؛ فإن الصوفية - على وجه العموم - نبَّهوا في صورٍ حاسمةٍ إلى وجوب التزام الشريعة، يقول الإمام أبو الحسن الشاذلي :" من دعا إلى الله تعالى، بغير ما دعا به رسول الله فهــو بِدْعِىٌ.". ويقول: " إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس في الجماعة، فلا تعبأ به ".ومن أجمل كلماته في هذا: " ما ثَمَّ كرامة أعظم من كرامـــة الإيمان، ومتابــعة السنَّة.فمن أعطيهما؛ وجعل يشتاق إلى غيرهما: فهو عبدٌ مفترٍ كذَّاب، أو ذو خطأ في العلم والعمل بالصواب.كمن أُكْرِمَ بشهود الملك على نعت الرضا؛ فجعل يشتاق إلى سياسة الدواب، وخُلَـع الرضا ".وكل الصوفية ينهجون هذا النهج، ومن هؤلاء مثلاً: أبو يزيد البسطامي، الذي يقول في قوة حاسمة، وفي نطق صادق " لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات، حتى يرتقي في الهواء !، فلا تغتروا به؛ حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة ".ولقد تحدث الإمام الجنيد - أكثر من مرة - فيما يتعلق بالتصوف والشريعة، ومما قاله في ذلك :" الطرق كلها مسدودةٌ على الخلق؛ إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته، ولزم طريقته "، وقال أيضاً : "من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقْتَدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيَدٌ بأصول الكتاب والسنَّة ".
ولقد كان الإمام الغزالي في سلوكه وقوله وفي حياته كلها يلتزم الشريعة، ويقول: " إن المحققين قالوا لو رأيت إنساناً يطير في الهواء!، ويمشي على الماء!، وهو يتعاطى أمراً يخالف الشرع، فاعلم أنه شيطان" والواقع أن المثل الأعلى للصوفية على بكرة أبيهم، إنما هو رسول الله ، وهم يحاولون باستمرار أن ينهجوا نهجه، وأن يسيروا على منواله.فهو إمامهم الأسمى في كل ما يأتون، وما يدَعون، وهم يتابعونه مهتدين في ذلك بقوله تعالى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) وقد قال د. عبد الحليم محمود في كتابه قضية التصوف"، ص 48: "إن الصوفية لهم طريقٌ روحيٌ يسيرون فيه.وهذا الطريق يعتمد أساساً ومنهجاً وغايةً على القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة،.وهذا الطريق قد جرَّبَه الصوفية؛ فثبتت ثماره عن طريق التجربة أيضا،.وجوهر الطريق الصوفي هو ما سمَّاه الصوفية المقامات والأحوال، والمقامات هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله؛ فيقف فيها فترة من الزمن مجاهداً في إطارها حتى يهيئ الله له سلوك الطريق إلى المنزل الثاني؛ لكي يتدرج في السمو الروحي من شريف إلى أشرف، ومن سام إلى أسمى، أما الأحوال؛ فإنها النسمات الروحية التي تهب على السالك فتنتعش بها نفسه لحظات خاطفة، ثم تمرُّ تاركةً عطراً تتشوق الروح للعودة إلى تَنَسُّم أريجه".
يتبع ان شاء الله


بعض إخواننا الصادقين في حبهم لله، المتأسين في أحوالهم بسيدنا ومولانا رسول الله يجدون في النفس غضاضة عندما يسمعون كلمة "تصوَّف" أو "صوفي" ويقولون ما للتصوف وللإسلام ؟ ويظـنون أن التصـوف شئ غـير الإسـلام.
إن دين الله فصله الله جلَّ في علاه، وأمر سبحانه أمين الوحي جبريل أن ينزل على الحبيب وهو وسط أصحابه، وكان جبريل يسأل والحبيب يجيب، وبعد أن انتهى جبريل عليه السلام وانصرف، قال أتعلمون من هذا ؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمور دينكم.، ومع أننا نحفظ رواية الحديث، لكني سآتي بها هنا من أجل الوقفات التي نريدها في حديث رسول الله.، استمعوا إلى سيدنا عمر بن الخطاب، ماذا يقول :{ بينما نحن عند رسول الله ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب.شديد سواد الشعر.لا يرى عليه أثر السفر.ولا يعرفه منا أحد.حتى جلس إلى النبي .فاسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه} – وهنا يعلمنا أن طالب العلم عليه أن يظل ماشيا إلى أن يزاحم العالم بركبتيه،وذلك لأن الحبيب رأى ثلاثة داخلين على مجلسه، فأخذ أحدهم يتخطى الرقاب حتى وصل إلى مكان خالٍ بجوار رسول الله فجلس، وأما الثاني فنظر في المجلس فوجده غاصاً بالجالسين فاستحى وجلس في مؤخرة المجلس، وأما الثالث فقد نظر إلى الحاضرين وتفرس وجوههم ثم مشى، فقال :{ ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه } إذن علينا أن نعمل في مجالس العلم كما كان أصحابه فقد كانوا يقولون كنا نزاحم العلماء في مجالس العلم بالركب!، من أين تعلموا ذلك ؟ من جبريل، فأخذ يزاحم حتى زاحم الحبيب بركبتيه، ثم وضع يده على فخذيه، وبعض الأخوة الغير منتبهين ظنوا -وهذا لسوء الفهم- أن جبريل وضع يده على ركبتي النبي، لا! ولكن جبريل جلس كما نجلس في التشهد وكانت ركبتيه في ركبة النبي، وزيادة في الأدب وضع يده على ركبتي نفسه وهى جلسة الأدب، ولذا فينبغي أن يجلس الجالس مع العلماء بالأدب الذي كان عليه الأمين جبريل مع السيد النبيل .. وقال :{{ يا محمد ! أخبرني عن الإسلام.فقال رسول الله : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .وتقيم الصلاة.وتؤتي الزكاة.وتصوم رمضان.وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا " قال: صدقت.قال فعجبنا له.يسأله ويصدقه }}.وهذا هو مقام الإسلام ... وهو أول مقام في الدين.وهل الدين إسلام فقط؟ أم هناك ما هو أعلى من الإسلام ؟نعم! هناك مقام الإيمان،وهو أعلى من الإسلام، ولذلك عندما قالت الأعْرَابُ آمَنَّا، قال حضرة الله: قـل لهـم لا ...( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )وذلك لأن الإيمان أعلى ولم يصلوا إليه بعد،{ قال فأخبرني عن الإيمان؟ }، فالإسلام أعمال الظواهر لهذه الجوارح، والإيمان أعمال القلب، ولذلك فإن أعمال القلب أعلى { قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " قال: صدقت.}.هل الدين إسلامٌ، ثم إيمانٌ وفقط!! أم هناك مقام أعلى ؟نعم! هناك ما هو أعلى؟ ما هو ؟ ..... { قال: فأخبرني عن الإحسان؟} ، إذاً المقام الأعلى في الدين هو مقام الإحسان ، وفى رواية { قال ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه.فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.} .وهذا مقام الإحسان وهو المقام الأعلى، ... فالمنتسبون للصالحين... والذين يمشون مع الصالحين... ويلازمون مجالس الصالحين 0 لماذا يفعلون ذلك ؟ .. لأنهم يريدون أن يصلوا إلى المقام الأعلى في الدين وهو مقام الإحسان.إذن فنحن عندما نقول الصالحين أو نقول الصوفية، فنحن نقول على التمام ..طلاب مقام الإحسان..
أو الراغبون في مقام الإحسان، أو العاشقون لمقام الإحسان، أو الذين يريدون أن يكونوا عند الله في درجة الإحسان ... إذن هل درجة الإحسان هذه من الدين أم لا ؟ .... بل في الدين.وهل هذا المقام فرضٌ أم نفل ؟ إنه فرض! لأن الحديث قال في النهاية :{ هذا جبريل آتاكم يعلمكم أمور دينكم }إذن فكل هذه الأمور من الدين، والإحسان فرضٌ من فروض الدين طالبنا به الرحمن ، وهو مقام يجمع الإسلام والإيمان، فالإسلام هو عمل الجسم والمظاهر والظواهر، والإيمان عمل القلب كما قلنا، أما الإحسان فهو عمل الظاهر والباطن.ولو أن رجلا منا تعلم الكيفية الصحيحة للركوع والسجود والوقوف والجلوس للتشهد في الصلاة، وجوَّد القرآن على يد عالم قارئ، وأتقن التلاوة، لكنه أدى هذه الحركات ونطق بهذه الكلمات وقلبه في بيته! أو في عمله! أو في السوق!هل تكون هذه الصلاة لها القبول عند حضرة الله؟ لا! مع أنه أتقن الوقوف والركوع والسجود و وجوَّد التلاوة! لكن القلب غافلٌ عن الله! أو مشغول عن الله! ولذلك عندما يثنى ربنا على المؤمنين في أول سورة المؤمنون فماذا يقول؟( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1} ( الذين نجحوا وهـم ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{2}( وهل الخشوع عمل من أعمال الجسم ؟ أم من أعمال القلب ؟ من أعمال القلب! إذاً العبرة بعمل القلب : { أن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم } ، وإذا كان القلب خاشع، فهل يصح الخشوع والبدن غير خاضع لله! ؟ لا !إذاً! فتمام العمل خضوع البدن والجوارح لله، وتمثلها بحركات الصلاة كما كان يؤديها حبيب الله ومصطفاه، مع خشوع القلب وحضوره بين يدي الله ، وهذا ما نسمِّيه الإحسان!، أي أحسن الركوع والسجود والتلاوة، وكذلك أحسن معهم الطهارة والخشوع والحضور لله وهذا ما يطلبه أهل مقام الإحسان، أو إن شئت قلت الصالحون أو الصوفية، وهم من قال لهم حضرة النبي :{ إن الله كتب الإحسان على كل شيء } فأي شئ يعمله الإنسان يجب أن يحسنه، كيف ؟ .. إخواننا الغير منتبهين ظنوا أن الإحسان في الأشياء الظاهرة وحسب! كما قلت: الإحسان في الحركات الظاهرة!، إذاً لا بد معها من حركات القلوب لكي تنال المطلوب ) إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( (27 المائدة).والتقوى عمل من أعمال القلوب،وأي عمل أعمله .. فإن درجات العمل وقبول العمل ومنزلتي في العمل عند الله تتوقف على نيتي في العمل.{ إنما الأعمال } .. هل هي حركات؟ لا! ولكن { بالنيَّات }، أين هذه النيات؟ في القلوب، { وإنما لكل امرئ } .. هل ما عمل؟ لا! ولكن { ما نوى } فكلنا نصلى مع بعض .. لكن في نهاية الصلاة، هل نكون كلنا في الأجر سواء ؟ كلا، إذاً الاختلاف في الأجر الأساس فيه ... القلب والنيَّة.وقد رأى حضرة النبي إثنان من الناس يصليان فقال ما معناه أن المرء ليصلى بصلاة أخيه وركوعهما واحد وسجودهما واحد وبينهما كما بين السماء والأرض، ودعا للتصدق فجاء رجل بدرهمين وآخر أتى بألف درهم وثالث أتى بدرهم واحد فقال e مبينا تأثير النوايا في قبول الأعمال ودرجاتها عند الله :{ سبق درهم مائة ألف درهم فقال رجل وكيف ذاك يا رسول الله فال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به} كيف ذلك؟ ... في الظاهر يبدو أن الأكثر في الأجر هو صاحب الألف درهم!... لكن صاحب الدرهم فاز بالنية.فالعمل لكي يقبله الله لا بد فيه من الإخلاص، والإخلاص في القلب، وكذلك لا بد أن يكون في العمل صدق، والصدق في القلب، ولا بد أن يكون في العمل خشية، والخشية في القلب.من هم العلماء الذين اجتباهم ربنا وأثنى عليهم؟(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ( والكل يبلغ!، فهناك من يبلغ على المنبر، وهناك من يبلغ في التلفزيون والإذاعة، لكن من اللذين أثنى عليهم الله ؟ زودهم بـ ) وَيَخْشَوْنَهُ ( قال تعالى: ) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ )39 الأحزاب)إذن الموضوع ليس بالعلم، ولنفرض أن هناك من أعطاه الله الخشية وهو أمىٌ لا يقرأ ولا يكتب؛ فهو عند الله عالمٌ كبير، وآخر حفظ كل العلوم ولسانه في الفصاحة ينطق بكل اللغات والفهوم!!!!، ومع ذلك ليس عنده خشية لله ، مثل هذا قال فيه الله في سورة الصف  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ{2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ{3} إذن التمييز بالخشية ... والخشية في القلب، ومن أجل أن يصل الإنسان إلى مقام الإحسان ؟ لا بد وأن يحسن العمل، ولكي يحسن العمل ويحوز به القبول، لا بد وأن ينظف القلب ويطهره لله، ويجعله أولاً طاهراً من ناحية خلق الله، ليس فيه غلٌّ ولا غشٌّ ولا حقد ولا حسد لأحد من الخلق أجمعين.كيف ذلك .. أولا من الكتاب فقد وصف الله المؤمنين فقال ( 47 الحجر) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)وثانيا ، في السنة المطهرة الكثير ، ونختر منها ... هذه القصة المعروفة .. ففي جلسة مع حضرة النبي قال لأصحابه:{ يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة وبعد أن جلس الرجل قليلاً خرج، فقال صلى الله عليه وسلم قام عنكم الآن رجل من أهل الجنة، و كان هذا الرجل هو سيدنا عبد الله ابن سلام } وفى رواية أن هذا الأمر تكرر ثلاثة أيام متتالية على نفس المنوال، وفى كل مرة يطلع نفس الرجل وعلى نفس الحالة ..... والآن أعيروني سمعكم وفهمكم !!هذا الرجل سيدنا عبد الله بن سلام ، كان يهودياً واسلم ...، ولكن كان هناك في وسط الحضور من الصحابة يوجد من؟ يوجد سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، وكانت له قصة مشهورة في العبادة ... لأنه كان يقوم الليل كله يقرا القرآن في صلاته ويصوم الدهر كله، والحديث يروى عنه رضي الله عنهما ويقول:
{ كنت رجلا مجتهدا، فزوجني أبي، ثم زارني، فقال للمرأة: كيف تجدين بعلك؟ فقالت : نعم الرجل من رجل لا ينام ولا يفطر ( تعنى أنه منشغل بالعبادة فلا يأتيها)، قال: فوقع بى أبي (أي نهرني وعنفني)، ثم قال: زوجتك امرأة من المسلمين فعضلتها! (أي ظلمتها)، فلم أبال ما قال لي مما أجد من القوة والاجتهاد إلى أن بلغ ذلك رسول الله ( فاستدعاني وسألني عن عبادتي وفعلي، فأخبرته)، فقال : لكني أنام وأصلى، وأصوم وأفطر، فنم وصل وأفطر ، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، فقلت: يا رسول الله أنا أقوى من ذلك، قال: فصم صوم داود، صم يوما وأفطر يوما، قال أنى أقوى من ذلك، قال لا أفضل من هذا، واقرأ القرآن في كل شهر قلت: يا رسول الله أنا أقوى من ذلك، قال: اقرأه في خمس عشرة، قلت: يا رسول الله أنا أقوى من ذلك، قال حتى بلغ سبعاً أو ثلاثاً } فهذا الصحابي الذي شكاه أبوه لرسول الله من شدة عبادته !! هذا الرجل عندما سمع حضرة النبي يقول عن سيدنا عبد الله ابن سلام أنه رجل من أهل الجنة قام ومشى خلفه حتى بيته، وعندما دخل البيت طرق عليه الباب، فلما فتح الرجل الباب، قال إني تلاحيت مع أبى (هناك خلاف بيني وبين أبى) وتركت المنزل، وأريد ضيافتك إلى أن ينتهي الأمر، وكانت مدة الضيافة عندهم ثلاثة أيام.وكان عبد الله ابن عمرو يريد أن يرى ماذا يفعل هذا الرجل لتستوجب له الجنة، فكانا يصليان مع رسول الله العشاء، ويعودان، فيجد أن الرجل ينام، فقال عبد الله في نفسه قد يكون متعباً هذا اليوم، وقبيل الفجر قال الرجل هيا نصلى مع رسول الله، وفى الصباح أتى له بوجبة الإفطار، فقال عبد الله بن عمرو في نفسه لعله متعباً هذا اليوم ولن يستطيع الصيام، وفى اليوم الثاني والثالث تكرر نفس الأمر فكان الرجل لا يزيد عن الفرائض !!! .. فقال ابن عمرو :{ يا أخي سمعت رسول الله يقول في شأنك عند دخول المسجد – يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة ويقول في شأنك وأنت خارج كذلك قام عنكم الآن رجل من أهل الجنة ، وما رأيتك تزيد شيئاً عن الفرائض!، قال يا أخي والله ما أزيد شيئاً عما رأيت، وعندما وجد حيرته نظر إلى الأرض وقال غير أنى أبيت وليس في قلبي شئ لأحد من المسلمين قال فبذلك } ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ( ( 89 الشعراء) وفى رواية أنس بن مالك في الترغيب والترهيب : { فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك } وفى رواية أخرى { وهى التي لا نطيق أو لا يطيق الناس }إذن لا بد على الإنسان أن يطهر قلبه من ناحية الخلق، ويطهر قلبه للحق.كيف ؟ بألا يكون في قلبه شئ أعظم ولا أكبر ولا أعلى من حب الله ورسوله!!. لا المال! ولا الزوجة! ولا الوظيفة! ولا العيال! ... ويجب أن يكون كل ذلك في الدرجة الأقل، والدرجة الأعلى التي يكون فيها حب الله ورسوله وإذا نفذ الإنسان ذلك...ولا يتم له ذلك إلا بمصاحبة أهل ذلك، ولهذا يقول الله لنا في هذا المقام أو في ذلك الشأن في (119 التوبة) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ )أي ابحثوا عن الصادقين ولازموهم!! من هم الصادقون ؟ فلنسأل الحبيب الأعظم والمصطفى الأكرم قال:{ خياركم من ذكركم بالله رؤيته، و زاد في عملكم منطقه، و رغبكم في الآخرة عمله } أي الذي تذكر الله عندما تراه، زدنا يا رسول الله .. قال في حديث آخر:{ خير الأصحاب صاحب إذا ذكرت الله أعانك، و إذا نسيت ذكرك } وهذا سر التآخي والتآلف بين الصالحين وبين المريدين وهو بلوغ مقام الإحسان، وهذا الأمر الأول الذي أريد أن أبينه لكم
والأمر الثاني هو في بشريات مقام الإحسان ، فكيف ذلك؟ .. إذا بلغ الإنسان مقام الإحسان!، فإنه يجد علامات وبشريات حكاها الله في كتاب الله  لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ (64 يونس)مـن هذه البشريات في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)ما لهم يا رب؟ قال تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ( هل تنزل عليهم الملائكة أم تتنزل ؟ تتنزل باستمرار وعندما تتنزل الملائكة لا يرونهم وحسب وإنما هناك حوار بينهم ..(أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)ونحن تحت إمرتكم: نحن أوليائكم في أي مكان أولاً هنا أم هناك ؟ هنا في الدنيا أولاً ثم في الآخرة وكان على ذلك أصحاب رسول الله ... والأمثلة في هذا الباب يطول سردها .. فعلى سبيل المثال:سيدنا عمران بن الحصين مرض بالبواسير، وقالوا له لا بد من الكي بالنار وأصر أخوه على ذلك، قال يأخى أنى كنت حاضرا بين يدي رسول الله فقال لنا :{ يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب،قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون } وأنا أريد أن أكون من هؤلاء ولا أكتوى بالنار، فقال أخوه أن الأطباء يقولون لا سبيل إلا ذلك، والحديث الآخر يقول :{ الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار } فلما اكتوى زاد ما به من مرض، فقال أخوه لقد حيرتني!، قال أتدري ما الذي زاد من مرضى ؟ قال لا قال كانت الملائكة تأتى لزيارتي وتسلم على فلما اكتويت امتنعت الملائكة عن زيارتي فذالك الذي زادني مرضا. وكذلك تعلمون أن الصحابة في بدر قد رأوا الملائكة وكانت الملائكة تشجعهم على القتال، قال تعالى في آية 14 سورة التوبة قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ )كم واحد من أصحاب رسول الله كان معه شهادة الليسانس أو البكالوريوس أو الدكتوراه أو حتى الثانوية أو الإعدادية أو الابتدائية ؟ لا أحـد.. إذاً كيف ملأوا الأرض علماً؟ ومـن أيـن أتـوا بكل هـذه العلوم ؟ ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (الكهف)هناك فصل للمتفوقين ... المخصوصين ... المجتبين عند رب العالمين، ومن الذي يعلمهم؟ .. هو حضرة العليم بذاته، ورسوم من يدخل هذا الفصلوَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ(282 البقرة)من الذي يعلم هنا ؟ الله! فعندما أجد رجل آتاه الله علماً لم أقرأه في كتاب ولم أسمعه من عالم يطابق شرع الله ولا يخرج عن سنة حبيب الله ومصطفاه وأجد أن هذا الرجل قد أكرمه الله بشئ من الفراسة النورانية وأصبح داخلاً في قول خير البرية:{ إِتْقُوُا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فِإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُوُرِ الله } وفى رواية زيادة :{ وَيَنْطِقُ بِحِكْمَةِ الله }فأعلم أن هذا الرجل أصبح له قدرا عند الله في مقام الإحسان فماذا أفعل؟ أصحبه لكي أتعلم كيف أصل إلى ما وصل إليه، وصحبة الصالحين من أجل هذا الأمر لأن الله عندما تكلم عن العمل وأنه لا يضيعه قال عز شأنه إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (الكهف)وإحسان العمل – مع القيام به على الوجه الشرعي الظاهر - لا يكون إلا: بإحسان النية. وبوجود الإخلاص فيه. وبوجود الصدق لله فيه. ومراقبة الله في أوله وأثنائه وبعده. وأن يجعل هذا العمل بغية رضاء الله جل في علاه.وهذا ما جعل الناس تصحب الصالحين ...من أجل أن تتعلم منهم إحسان العمل، لأن الله جلَّ في علاه قال في المحسنين إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ(النحل)معهم بنصحه، معهم بلطفه، معهم بإكرامه، معهم بتأييده، معهم بإجابة الدعاء وتحقيق الرجاء، معهم بالفرج القريب، معهم بتحقيق المأمول، معهم في كل شأن وفى كل حال، معهم في الدنيا، معهم في البرزخ، ومعهم في الآخرة، ومعهم في الجنة، لأنهم في معية الله التي لا تغيب ولا تنقطع عن قريب أو حبيب طرفة عين أو أقل .. وهذه هي معية المحسنين الذين نريد أن نكون منهم، وهذا كما قلنا سر صحبة الصالحين أو المتقين لإى كل وقت وحين ...وإن شئت قلت هذا سر صحبة الصوفية أو أهل الإحسان ..فهذه التسميات ليست هي المربط، فإذا أسماها الناس بعد ذلك صوفية أو تصوف، فلا بأس .. لأن أساسهم في دين الله، ونحن نصحبهم لنتعلم منهم إحسان العمل الذي ظهرت عليهم بشرياته، ونتعلم منهم كيفية العمل الذي يبلِّغ الأمل لتكون لنا درجات في منازل الإحسان، ونكون مع النبي العدنان في منازل الرضوان.[

كثر في هذا الوقت الحديث عن التصوف والصوفية، وظهر في الأفق كثير من المعترضين والذين ينظرون إلى مُدَّعى التصوف - الذين انشغلوا بالظواهر والمظاهر؛ ولم ينشغلوا بنور الله الواضح والباهر- وظنوا أن هؤلاء هم الصوفيةواعترض كثيرون أيضا على الصوفية؛ بحجة أنه لا يوجد لهم أصل في الشريعة الإسلامية والملة الحنيفية.ونريد أن نجلِّى هذا الأمر، بوضوح، وببيان من القرآن وبسنة النبي العدنان، ومن الحياة العملية التي ربَّى عليها النبي المصطفى أصحابه في مكة والمدينة... في بدء دعوته وفى أول رسالته والصوفية يا إخواني تعنى باختصار شديد؛ العمل بما علمه الإنسان من دين الرحمن : .. أي الترجمة السلوكية والحياة العملية للآيات القرآنية، والتوجيهات النبوية.فآيات القرآن تدعو أهل القرآن إلى مقامات علية، وإلى أحوال مرضية رغّبت فيها الآيات القرآنية، والصوفية عاشوا هذه الحياة بأجسادهم، ونفوسهم، وقلوبهم، وأرواحهم؛ حتى يجدوا لذة الوصال، ويبلغوا مقامات الكمال، التي وضحها الله في قرآنه للرجال، فليست الصوفية: سفسطة، ولا فلسفة، ولا نظريات، ولا أقوال، وإنما هي: سلوك ،وأفعال، وأحوال. بعده ينظر الله إلى العبد؛ فيمنحه من عنده من معين فضله، أو من نور وصله، أو من ينابيع حكمه: ألوانا من الإتحافات الإلهية، والعطاءات الربانية؛ لا يستطيع أحد من الأولين والآخرين حصرها، وكلها من فضل الله.،قال تبارك وتعالى فى محكم الذكر (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)وأساس الصوفية هو ما فعله سيدنا رسول الله بذاته، عندما كان يخرج كل عام في شهر رمضان ليختلي بغار حراء، وتجهز له زوجته الصفية التقية النقية السيدة خديجة رضى الله عنها: زاداً يكفيه الشهر.وكان يختلي في هذا الغار مع الله، تارة يتفكر، وتارة يتدبر، وتارة يذكر الله، وتارة يتعبَّد على الملة الحنيفية - ملة إبراهيم عليه السلام -حتى قال أهل مكة في شخصه - قبل نزول الرسالة- لقد عشق محمدٌ ربه، وذلك من شدة شغله بالله ولذلك أكرمه الله بعد ذلك بالصفاء والنقاء، فقال عن هذه الفترة:أنه كانت الأحجار والأشجار والجبال تناديني باسمي وتقول يامحمد يامحمد، وورد فى ذلك الكثير من الأحاديث والروايات منها قوله :{ إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه الآن } وهذا كان قبل نزول الوحي. فكل من صفت روحانيته، واستنارت بشريته؛ كان ما فيه من الحقائق الراقية تخاطب وتسمع خطاب الحقائق ، قال تعالى فى [44 الإسراء]وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فمن صفا يسمع، ويفقه هذا التسبيح، ويسمع هذا الكلام، وإن كان بغير لسان ولا صوت ولا لهاة ولا شفتين، لكن الله إذا أراد فهو فعال لما يريد وهذا هو أساس التصوف.وبعد نزول الوحي على حضرته ‘ استمر على حالته فكــان يقوم الليل حتى تتورم قدماه؛ شكرا لله على عطاياه.وكان يصوم حتى يقولوا لا يفطر، وهو صيام الوصال.وكان كما قالت السيدة عائشة رضى الله عنها: يذكر الله على كل حال حتى وصل إلى حال قال فيه :{ تنام عيني وقلبي لا ينام } فكان لا يغفل عن ذكر مولاه، حتى وهو في حالة المنام، لماذا؟ .. لأنه استلذ طاعة الله ، ولم يضيِّع نفسا في غير ذكر مولاه وكان وقته كله وحاله كله مع مولاهقُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ[162 الأنعام]. فكان قوله عبادة، وفعله عبادة، وأكله عبادة، وشربه عبادة، ونومه عبادة، حتى إتيانه لشهوته كان عبادة، وكل أفعاله حتى مزاحه كان عبادة:{ إني لأمزح ولا أقول إلا حقا } .
فترجم حياته كلها إلى عبادة لله ، ولما قال الله له، قل وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام] استبق أحبابه وأصحابه في اتخاذ هذا النهج في حياتهم.فأسس النبي أول مدرسة في التصوف السلوكي والعملي في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكانت قريبة من الصفا الآن، وكان يجتمع فيها مع أحبابه الثلة المباركة ... وكانوا لا يتجاوزون الأربعين ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ [الواقعة]وبدأ معهم في هذه المدرسة الحياة الصوفية الرفيعة .ومعنى الصوفية أي نشر الصفاء... لا نريد أن ندخل في هذا الاسم من أين جاء ؟ ولا أقوال الفلاسفة والحكماء ؟ لكن ندخل مباشرة على الصفاء: لأنه أساس الصوفية، فالصوفية كل همهم الصفاء، وبعد الصفاء يواجههم الله بخالص المنح والعطاء.متى يصلح الإنسان للعطاء ؟ إذا وصل وأشرف بنفسه وقلبه على مقام الصفاء؛ يأتيه الهناء من الله بالمنح والعطايا الإلهية؛ التي لا نستطيع أن نعدها حتى عدّاً؛ لأنها من الله .فمكث مع أصحابه في دار الأرقم بن أبى الأرقم؛ يؤهلهم لهذه المنح، ويجهزهم لهذه العطاءات؛ لأن عطاءات الله الخاصة بعباده المؤمنين، تهبط على القلوب، وتنزل على الأرواح....أما العطاءات والمنح والخيرات التي تتمتع بها الأجسام، والنفوس، والأشباح؛ فإن أمرها مباح للكافر والنافر،فالكل يتمتع بالخيرات الحسية، والمباهج الدنيوية، والمظاهر الظاهرة الأرضية، وربما يكون للكافر حظا أوفر من المؤمن فيها؛ لأن الله يربى عبده المؤمن، ويقول في ذلك سيد الأولين وإمام الموحدين :{ إن الله يحمى عبده المؤمن من الدنيا كما يحمى أحدكم مريضه من الشراب والطعام } .فالمريض إذا كان هناك طعام أو شراب يزيد الداء عنده، فإننا جميــعا نتلطف معه حتى لا يتناوله أملا في الشفاء.والله علم بعلمه المكنون أن الدنيا هي الداء الذي يصيب النفوس، فيحجبها عن مقامات الصالحين والأولياء؛ فيحمى المؤمنين من الدنيا لأنه يريد أن يكرمهم وأن يعطيهم وأن يمنحهم.
فأخذ النبي معهم دورة تجهيزية للعطاءات الإلهية، وكانت هذه الدورة تشتمل على :... تنقية النفوس ،... وطهارة القلوب. تنقية النفوس من الرذائل، والصفات التي تحرم الإنسان من الأنوار وتمنعه من فضل المنعم العزيز الغفار: كالحقد، والحسد، والبغض، والكره، والطمع، والأثرة، والأنانية، والشح، وغيرها من الصفات التي بينتها الآيات القرآنية، ووضحتها الحضرة النبوية، وركز عليها في دورته التأهيلية...خير البرية .وعنوان هذه الدورة من قوله تعالى فى [ الحجر]:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) ثم بعد ذلك القسم الثاني في الدورة: دورة التأهيل التي قام بها البدر المشرق المنير .تأهيل القلوب.وذلك بتنقيتها من أمراض القلوب، وأعظمها وأخطرها مرض الكبر!؛ لأنه يمنع الإنسان من أي فضل ينزل من حضرة الرحمن :{{ مكتوب على باب الجنة: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر }} وغيرها من الأمراض التي أشارت إليها الآية التي وردت في شأنها : فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [60 الأحزاب]
وهى الموسومة بصفات النفاق، فلا بد للإنسان أن يتطهَّر من أوصاف النفاق، وأحوال المنافقين؛ ليكون من عباد الله الصالحين... [التوبة]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَأي لتكونوا صدِّيقين.وهذه الدورة اسمها: دورة تزكية النفوس، أي: طهرة النفوس، وتصفية القلوب. من الذي حضرها؟ :أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، ومصعب بن عمير، وحمزة بن عبد المطلب، وغيرهم من الوجوه النيرة، التي حملت على أكتافها لواء تبليغ دعوة الله ؛ رغبة في رضاه، لا يرجون من وراء جدهم وجهادهم مناصباً، ولا مكاسباً فانية، وإنما يرجون مناصباً راقية ومكاسباً باقية عند حضرة الباقي [الآية (28) سورة الكهف]:يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ لا يريدون إلا وجه الله جلَّ في علاه، حتى أنهم وصلوا إلى درجة لم يعد لغير الله في قلوبهم نصيب ولو كانوا الآباء، والأمهات، والأخوات؛ لأنهم لا يعرفون إلا الله، ولا يحيدون عن منهج الله طرفة عين ولا أقل.انظر إلى الإمام عمر بن الخطاب بعد موقعة بدر:قال للحبيب : يا رسول الله، أعطني فلانا - قريبا له- وأعطِ أبا بكر فلانا - قريبا له-، وذكر أصحاب رسول الله من علّية المهاجرين وأقربائهم، وقال: أعطهم لنا، لنقتلهم بأيدينا، حتى يعلم الله أن قلوبنا ليس فيها هوادة لسواه. ولن تقوم قائمة يا إخواني للإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان؛ إلا إذا وُجِدَ رجالٌ من هذا الطراز؛ لا يحابى الرجل منهم أحدا - حتى ولو كان ابنه أو ابنته - لأنه يرجوا رضا الواحد الأحد. لا يجامل الناس بكلام، ولا يرائي الخلق، وإنما إذا قال فعل. هؤلاء هم الرجال الذين قيل فيهم القائل :"إن لله رجالا إذا قالوا فعلوا"وقد دربهم الحبيب على ذلك، وأهّلهم لذلك.حتى كان الرجل منهم لا ينطق بكلمة واحدة إلا إذا قدّرها، ودبّرها، ودوّرها في آفاق فكره، وعرضها على نور قلبه، ثم عرضها على شرع ربه :.فإذا وافقت كل ذلك أخرجها!، وإلا كتمها ولم يخرجها !.ومن ضمن جلسات هذا البرنامج المبارك:جلسات غريبة وعجيبة في نظر كثير منا؛ فمجالس ذكر الله، ومجالس العلم، ومجالس قراءة القرآن مجالس متعارف عليها...ولكن ما يستدعى العجب :......... مجالس الصمت ……:وهى التي قال فيها سيدنا أبو بكر رضى الله عنه وأرضاه :{ كنا نتعلم الصمت كما تتعلمون الكلام }.أي كان هناك حلقة يتعلمون فيها الصمت؛ حتى لا ينطق أحدهم إلا بما يستطيع فعله،وهذا هو حال المؤمن. فالنذر فرض ومن الذي فرضه على الإنسان ؟ الإنسان نفسه..وإذا نذر، ولم يفِ :.حاسبه على ذلك الله،...لماذا ؟ ليتعود على أنه إذا قال فعل، وإذا وعد فلا بد أن يفِ، هل هناك أحد يرغم الإنسان على النذر؟ كلا !..لكن عندما ينذر لا بد أن يفِ بنذره.وكذلك الزواج كلمة!، والطلاق كلمة!.فالكلمة لها وزنها عند رجال الله، ودرّبهم على ذلك سيدنا رسول الله ، ولذلك كانت شهادة التخرج التى حصلوا عليها :{ علماء حكماء فقهاء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء } من الذي أعطاهم هذه الشهادة؟ صاحب الحسنى والزيادة ، قال تعالى فى الآية 24 سورة الحج :وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ وتفصيل ذكر أحوال هؤلاء الرجال يطول بنا لكن حسبنا أن نبين أن أول مدرسة في الصفاء والنقاء والتصوف كانت دار الأرقم بن أبى الأرقم في مكة المكرمة وكان عنوانها: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى{14} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى] لقد وصلوا إلى حالة من المعرفة. حتى أن الرجل منهم ، وعلى سبيل المثال: سيدنا أبو بكر الصديق اتخذ له حجرة في بيته يقرأ فيها القرآن، فكان العبيد والنساء والصبيان والرجال يحيطون بمنزله ليستمعون إلى تلاوته للقرآن، ولا يستطيع أحد من ذويهم أن يأخذهم بالقوة، لأنهم مأخوذون بتلاوة أبى بكر في القرآن....حتى حدثت ثورة في مكة !!، وذهب أكابرها إليه يطالبونه بالخروج منها!، أو يقرأ القرآن سرا، ولا يرفع به صوته وكذلك مصعب بن عمير :عندما دخل المدينة! بم فتح قلوب أهلها؟ بتلاوة القرآن.....لقد كان عندما يقرأ القرآن يعتصر قلبه؛ فيشد النفوس، ويجذب القلوب إلى هذا الكلام....حتى كان يُسَمَّى في المدينة: المقرئ، لأنه يقرأ القرآن .. وأى قراءة..!!.فكانت وسيلة دعوته هو وإخوانه هي قراءة القرآن، لكنها من قلوب انفعلت بالقرآن !، وعظّمت القرآن !، فأثرت فيمن يستمع إلى تلاوتها، لأنهم تربوا على هدى النبي العدنان وبعد انتقال النبي إلى المدينة المنورة، زاد هذا الخير. فتأسست جامعة الصفة: وكان مسجد حضرة النبي، ليس به سقف، بل كان جدار يحيط به من الخارج، وكانوا يصلون على الأرض..لأنه لم يكن به فرش، وأجسادهم معرضة للسماء، والأسقف عارية، فهم الذين وظفهم الله في اقتباس الهدى من حبيبه ومصطفاه ، ليقوموا بعد ذلك بنشره في ربوع الأرض بين عباد الله.جعلهم الله تتفرغ قلوبهم من الدنيا، والشواغل الكونية، وذهبوا إلى الحبيب لا همَّ لهم إلا الإقبال على حضرته.
لم يكن لأغلبهم زوجات، ولا أولاد، ولا مساكن في هذا الوقت، فكانوا يجالسونه آناء الليل !وأطراف النهار! ...فإذا أرادوا أن يناموا أمرهم الحبيب أن يناموا في المسجد: فصنع لهم الأنصار " صفة " يعنى عريشا، على جزء من المسجد ينامون تحته، ليقيهم هذا العريش من حرارة الشمس في الصيف، ومن المطر الخفيف في الشتاء، أما المطر الغزير فكان لا يقيهم منه بل كان ينزل عليهم. هؤلاء القوم كان منهم بلال بن رباح، وسلمان الفارسى، وأبوهريرة، وصهيب الرومى، وأنس بن مالك، وغيرهم كثيرون، فكانوا حوالى تسعين رجلا، تفرغوا تفرغا كاملا لله ورسوله. وإياك أن تظن أنهم تفرغوا لقلة الشيء، أو الفقر !!! ولكنها إرادة الله: فقد فرَّغهم الله، وكأنه أخذهم في بعثة رسمية إلهية - بإقامة كاملة - لنقل علوم خير البرية، وهى الموجودة الآن في أنحاء العالم كله ... والرسول حضهم على ذلك، وحثهم على ذلك، وقال لهم في ذلك..فيما روى عن ابن عباس قال: { وقف رسول الله على أصحاب الصُفة فرأى فقرهم وجهدهم، وطيب قلوبهم، فقال: ابشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقى من أمتي على النعت الذي أنتم عليه، راضيا بما فيه فإنه من رفاقي في الجنة } وهذا الذي جعل التابعين، وتابعى التابعين والصالحين، يتأسون بأعمال هؤلاء القوم !!..لأنهم يريدون مرافقة سيدنا رسول الله .
الزهــــد وكان أول ما بدأت به الجامعة المحمدية:الزهد في المتع،والشهوات، والحظوظ، والملذات، والأموال، والدنيا، رغبة في رضاء الله جلّ في علاه، فالذي وضع المنهج؛ عميد الجامعة ، فقد ورد أن رسول الله جاء إلى أهل الصفة فقال :
{ كيف أصبحتم؟...، قالوا : بخير ، فقال رسول الله: أنتم اليوم بخير أم يوم يغدى على أحدكم بجفنة ويراح بأخرى ويغدو في حلة ويروح في أخرى وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة..!!، فقالوا يا رسول الله..نصيب ذلك ونحن على ديننا؟ قال : نعم.. قالوا: فنحن يومئذ خيرٌ، نتصدق ونعتق، فقال رسول الله : لا، بل أنتم اليوم خيرٌ } وفى رواية أخرى: { إنكم إذا أصبتموها؛ تحاسدتم، وتقاطعتم، وتباغضتم } فقد صدق ، لأن البغضاء والحسد، سببه الشهوات، والحظوظ، والدنيا الدنيَّة التي شغل بها الناس بالكلية. فبدءوا حياتهم الإيمانية؛ وكان أساس اجتماعهم ودخولهم إلى هذه الجامعة النبوية: الزهد، والزهد ليس معناه ألا يكون في يد الإنسان شئٌ، لكن حقيقة الزهد ألا يسكن قلبُ الإنسان لشيء.
فقد يكون الإنسان ليس في يده شئٌ من الدنيا، لكن قلبه يتطلع إليها ! ،وهذا ليس بزاهد !.لأنها لو وجدت له لتغير حالُه.لكن الزاهد الحقيقي؛ هو الذي أعطاه الله الدنيا في يده، ولم يجعل لها تأثيرا على قلبه، فيصرفها في مرضاة ربه .كما وجدنا من أصحاب رسول الله :{ ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ .. فقال: أبقيت لهم الله ورسوله } فلم ينكر عليه، ولم يعترض عليه، ولكن أقرَّه على ذلك.لأن حاله يستوجب ذلك، لكن غيره قال: { أنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة، أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: بالشطر؟ فقال: لا . ثم قال: الثلث والثلث كبير، أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء ، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس } ويتبين لنا من ذلك تفاوت القدرات، واختلاف الوجهات، وتباين المقامات والدرجات......وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ [سورة الصافات]. ماذا كان جدول أهل الصفة ؟ كان حلقات لتلاوة القرآن الكريم. وحلقات لذكر الله ،. وحلقات لمدارسة العلم والفقه. وتدريبات على أعمال الجهاد. وكان من أجل أعمالهم التفرغ لمتابعة رسول الله وتلقى العلوم عنه، وتبادلها معا وتوصيلها لباقى المسلمين كما سيأتى التفصيل لاحقا، وكانت هذه المهمة أحد أعظم أعمالهم تأثيرا فى المجتمع. لأنهم كانوا على الحقيقة جنوداً لله جلَّ وعلا وخَدَمَةً لحضرة النبي ، وضيوفه الكرام. فهذه أبرز أعمالهم، وكان النبي يتفقدهم، فقد ورد عن أبى سعيد الخدرى فى الحديث :{ كنت في عصابة ( جماعة ) فيها ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ علينا ونحن نستمع كتاب الله، فجاء النبي حتى قام علينا فلما رآه القارئ سكت، قال فسلم ثم قال: ما كنتم تصنعون؟ قلنا يا رسول الله كان قارئ يقرأ علينا وكنا نستمع إلى قراءته فقال النبي الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا، ثم قال بيده هكذا فحلق القوم ( صنعوا حلقة) وبرزت وجوههم، قال فما رأيت رسول الله عرف منهم أحدا غيري } {أن أصبر نفسى معهم}، يشير إلى قوله فى سورة الكـهف:وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (( ثم قال: { أبشروا يا معشر صعاليك (فقراء) المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذاك خمسمائة سنة } ومرة أخرى يحكى ثابت البنانى عن سلمان الفارسى ، فيقول:{ كان سلمان في عصابة (جماعة) يذكرون الله ، فمر النبي فكفُّوا، فقال: ماكنتم تقولون؟ قلنا نذكر الله يا رسول الله، قال قولوا، فإنى رأيت الرحمة تنزل عليكم، فأحببت أن أشارككم فيها، ثم قال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرْتُ أن أصبَر معهم }
وأحيانا كانوا ينقسمون إلى طائفتين؛ إحداهما تذكر الله تعالى، والثانية تُعَلِّمُ وتتعَلَّم، وعلماؤهم منهم؛ فإن سيدنا رسول الله جهز منهم علماء يعلمونهم: فكان سيدنا عبد الله بن رواحة يقول لهم: تعالوا بنا نؤمن بالله ساعة، ويعطيهم دروساً في الإيمان، ومرَّ رسول الله ذات مرة بسيدنا عبدالله بن رواحة وهو يذكر أصحابه فقال لهم :{ أما إنكم الملأ الذين أمرني الله أن أصبر نفسي معكم، ثم تلا الآية } وعيّن حضرة النبي أساتذة لهذه المدرسة في كافة التخصصات؛ فقال: {أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأشدهم حياءاً عثمان، وأفتاهم علىّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبى ذر، وأقرأهم أبي بن كعب، وأفرضهم - أي أعلمهم بأحكام الميراث- زيد بن ثابت} فعين لكل مادة أستاذا، وصدر قرار التعيين من سيد الأولين والآخرين ليقوموا بالتدريس بجامعة المصطفى ، وكل رجل منهم كان يلتف حوله طلابه ... وكان يتفقَّد الجامعة .. فخرج ذات مرة إليهم : { فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله ويرغبون إليه, والثاني يعلمون الناس, فقال: أما هؤلاء فيسألون الله تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيعلمون الناس، وإنما بعثت معلما ثم عدل إليهم, وجلس معهم }أصول التصوف
فكان النبى هو الذي وضع هذه الأسس.ومن هنا امتد هذا النسق، وهذا النهج، إلى يومنا هذا...على يد العلماء العاملين، والحكماء الربانيين في كل وقت وحين. ولذلك كان بداية التصوف: أن الرجل الصالح كان يبنى زاوية. ومن ثم يجمع فيها خلاصة أصحابه. ويصنع معهم ما كان الحبيب يصنع مع أهل الصفة. ويتكرر نفس المشهد، فمنهم من يذكر الله، ومنهم من يتفكر، ومنهم من يقرأ القرآن، ومنهم من يعلّم، ومنهم من يتعلم، ومنهم من يصوم النهار، ومنهم من يقوم الليل.
ويتعهد الرجل الصالح هذا أبنائه وأتباعه فيعطى لكل رجل منهم ما يلائم قواه، وما تميل إليه نفسه من العمل الصالح الذي يقرِّبه إلى الله، وذلك لأن النفوس مختلفات، وكل نفس تميل إلى عمل يقربها إلى الله، فيعطيه لكل منهم ما تميل إليه نفسه وما يصلح به حاله ليتقرب به إلى ربه؛فيفيض الله عليهم المنح والعطاءات التي أفاضها من قبل على أحباب الحبيب المصطفى من أهل الصُفَّة رضوان الله عليهم أجمعين. وهذا هو الأساس الذي سار عليه الصوفية الصادقون، والأولياء، والمتقون، والحكماء الربانيون، متَّبعين أحوال أهل الصُفَّة في أحبابهم وفى مريديهم ولذلك كما قلنا وبينا تجد لديهم حلقات الذكر، وحلقات العلم، وحلقات الفكر، وحلقات قراءة القرآن. وكذلك تجد بينهم: التحابب، والتوادد، والتآلف لأنهم يشترطون فيمن يدخل بينهم، ويشاركهم أمرهم، ألاّ يكون في قلبه: ضغينة أو حقد أو حسد، وألاّ يكون في نفسه أدنى ميل إلى الدنيا؛ لأنهم يجتمعون على الله، ويريدون وجه الله جلَّ في علاه.ومن أجل ذلك يكرمهم الله بالمنح والعطاءات الإلهية المذكورة في قول الله [32 فاطر]: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وهل التصوف هذا، يحتاجه الإنسان في هذا العصر ؟ نعم !يحتاجه الإنسان في هذا العصر، وفى كل عصر: لسلامة قلبه، ولصحة بدنه، ولصفاء وقته، ذهب أحد المريدين إلى الشيخ أبو السعود، وقال له: أريد أن أتتلمذ على يديك، فقال له: شيخك الشيخ عثمان المغربي، وهو في بلاد المغرب، ولما يأت بعد.فامكث هنا معنا إلى أن يأتي شيخك !، أي اجلس مستمعا فقط، لأنهم اخوة.:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10الحجرات] وبعد خمسة عشر عاما، وذات يوم، سأل الشيخ عن هذا المريد، وقال له: شيخك سيصل عصر اليوم إلى منيل الروضة قادما من بلاد المغرب عن طريق الإسكندرية، فاذهب للقائه، فتوجه المريد إلى الميناء بالمنيل، فوجد السفينة الآتية من الإسكندرية قد وصلت.فانتظر حتى نزل الركاب، فتعرف على شيخه، وذهب ليسلم عليه، ففوجئ به يقول له: جزى الله آخي أبو السعود عنى خيرا، إذ حفظك لي طوال تلك المدة. هؤلاء هم الأبطال حقا !! أمَّا ما يحدث من بعض المعاصرين عندما يتركه أحد المريدين، فتجده يقول لمن حوله: سيحدث له كذا من السوء، وسيصاب بكذا وكذا، فهذا ليس من دين الله في شئ.فليس بشيخ من يحنق على مريد إذا تحول عنه إلى غيره من الأشياخ، أو ترك مجلسه وذهب إلى مجلس غيره من الصالحين، لأن صاحب قدم الصدق من الرجال يعلم علم اليقين أن الإخوان الصادقين رزق من الله يسوقه إليه: "وما كان لك فسوف يأتيك"، وما ليس لك فلن تستطيع جلبه حتى لو أنفقت كل ما تملك: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [63 الأنفال] فالذات العلية هي التي تتولى ربط قلوب المريدين بقلوب المشايخ والعارفين، وأي تبديل أو تغيير لا يتم ولا يكون إلا بإرادة العلي القدير، وسجلات المريدين ومن ينتمون إليهم من الأساتذة، والعارفين ثابتة من قبل القبل، ولذلك فإن سيدنا سهل التسترى كان يقول: إني لأعلم أولادي وأربيهم وهم في أصلاب آباءهم منذ يوم ألست بربكم. أي أن الكشف المسجل فيه أحبابه، أخذه من هناك..! فالذي لم يكتب بالكشف يترك المكان، ولو جلس مرة لأنه ضيف وقتي والصالحون يعلمون ذلك ويعلّمونه لله ؛ وليس هناك مشكلة في ذلك. وهذه أحوال الصالحين في كل زمان ومكان، لأن بينهم نقاء وصفاء ووفاء، فكلهم أساتذة في الجامعة المحمدية، ولازم كل ليلة يجتمع أعضاء هيئة التدريس: وأين هذا الاجتماع؟ كما أشار سيدي إبراهيم الدسوقى في قوله:
على الدرة البيضاء كان اجتماعنا ... وفى قاب قوسين اجتماع الأحبة
فالذي يشهد اجتماع قاب قوسين هل يبقى عنده بقية من الدنيا الدنية؟ كلا، وهكذا كل من وصلوا إلى هذا المقام العالي، ليس هناك شئ يحاك في صدورهم نحو إخوانهم؛ لأن كل من حاك شئ في صدره بسوء نحو إخوانه، لا يؤذن له بالإشراف على هذه المعية، أو الحضور بقلبه في هاتيك المقامات السنيةوهؤلاء بسر استنارة بصائرهم يعرفون مريدهم، بل آونة يطلعهم الله على المريدين، ومن ينتسبون إليهم من أشياخهم.ومثل هؤلاء لا يجدون غضاضة في قلوبهم، إذا تحول أي مريد من مجالسهم إلى غيرهم.وهذا هو التصوف السليم، والمنهج المستقيم الذي جاء به السلف الصالح من الرؤوف الرحيم ، وأي شئ غير ذلك قد يكون فيه شهوة نفس أو حظ أو مآرب دنيوية أو هوى.ومن عنده هوى !.فليس له دواء.
جهاد العارفين للهوى ولذلك فمن بدايتهم، نزعوا الهوى من النفوس، وجعلوا هواهم الأوحد في المليك القدوس :
قد كان لي قبل أهواء مفرقـة ... فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
إذا كان الغافل له هوى في النساء، أو في المال، أو في الأكل، أو في أي شهوة أو غرض، فإن الذي عرف الله:....عينه لا تلتفت لحظةً هنا أو هناك.فسيدنا رسول الله: أشهده الله كل الجمالات من الجنَّات والعرش، والكرسي !!..لكنه كما أثنى عليه ربهمَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [سورة النجم] فلم يلتفت هنا أو هناك!!، وهل بعد جمال الله !،.وكمال الله !، ينظر إلى شئ؟ وهل هناك ما يطرف العين بعد هذه الجمالات والكمالات، وكذلك الذي يرى الحبيب الأعظم هل يريد أن يرى شيئا بعده؟
قد كان لي قبل أهواء مفرقـة ... فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلا بذاتك يا ديـنى ودنيائــى
فالذي اشتغل بالله حقا، وصدقا: لا يلتفت لغيره طرفة عين، ولا أقل.!! وهؤلاء هم الرجال الصادقون، الذين قال الله فيهم اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة] لماذا؟ لتكونوا معهم على الأقل فمن أحب قوما حشر معهم أو تكونوا منهم، وهذا الذي عنده همَّة وعزيمة! فإما أن نكون معهم، أو منهم. فالذي منهم يرث، وماذا يرث ؟ يرث علما، ونوراً، وحالاً، وفتحاً، وكشفاً، والهاماً، وفضلاً من ميراث الحبيب المصطفى : {إنما نورث علما ونورا} أي يأخذ حظه من العلم، أو حظه من النور، وما العلم الذي تركه رسول الله؟ علم القرآن، وعلوم الحقائق، وعلوم الدقائق، وعلوم الرقائق، وعلوم الفتح، وعلوم الكشف، وعلوم الفضل،.....علوما، يقول فيها الإمام أبو العزائم وأرضاه:
فلو أنى أبـوح ببعض ما بي لأحـرقت المشارق والمغارب
وولعت القلوب بحب ذات تحــلى من حلاها كل طالب
ويقول أيضا :
لو ذاق أهل البعد بعض مدامتى... تركوا الجدال وأحرقوا علم الرسوم
علوماً، يقول فيها الإمام على :" لو فسرتُ فاتحة الكتاب بما أعلم، لوقرتم سبعين بعيرا"علوما ليس لها حصر..!! من أين جاءت هذه العلوم؟ ... هذه وراثة من رسول الله ، وليست دراسة بإعمال الفكر والعقل والمشاهدة أو التجربة، ... بل هي وراثة نبوية مصطفوية فعلوم الوراثة غير علوم الدراسة فعلوم الدراسة: ربما يفنى المرء حياته كلها، ولا يستطيع أن يبلغ الغاية في التعمق في ميدان واحد من هذه الميادين، كما نرى.لكن علوم الوراثة: يحصل الإنسان فيها ما يشاء من العلوم في أقل من لمح البصر، إذا فتحوا له الباب وأدخلوه الرحاب، وكسوه حلة الأحباب، وجمَّلوه بجمال هذا الجناب، فإن كنوز فضل العلي الوهاب تنزل عليه بغير حساب وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة النور] وهذه العلوم هي التي عاش فيها وبها أصحاب رسول الله ، يمكن أحدث نظرية تربوية في وزارة التربية والتعليم، أو التعليم الجامعي، يقولون فيها: نحن نوجه الطالب ليحصل المعلومة بنفسه، هذه هي النظرية القرآنية الإسلامية فرسول الله كان يوجههم وهم يحصِّلون، أي يحصِّلون من الملأ الأعلى!، وبعضهم كان يحصل من الآيات التي في الكائنات !.
طھظپط§طµظٹظ„ ط§ظ„ط®ط¨ط±http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=%C7%E1%D5%E6%DD%ED%C9%20%DD%EC%20%C7%E1%DE%D1%C2%E4%20%E6%C7%E1%D3%E4%C9&id=19&cat=6










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق