ورد في الأثر أنَّ هارون الرشيد لما بنى قصره المنيع في حاضرة ملكه، وقد زخرف مجالسه وبالغ فيها وفي بنائها، صنع وليمة عظيمة لا مثيل لها، ودعى وجهاء مملكته ومنهم الشاعر أبو العتاهيّة بعد توبته، فقال له: يا أبا العتاهية صف لنا ما نحن فيه من نعيم الدنيا، فأنشأ يقول:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
تسعى عليك بما اشتهيت لدى الرواح إلى البكور
فاذا النفوس تقعقعت عن ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى هارون، فقال وزيره للشاعر معاتباً: طلبك الخليفة لتسرّه، فأحزنته، فنهاه هارون: أن دعه، فإنه رآنا في عمىً فكره أن يزيدنا منه.
دعونا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذى علَّمه مولاه ما ينفع أمته إلى يوم لقاه، ..يانبي الله: أو ليس إذا كثر المال تنصلح الأحوال؟ وتنتهي مشاكل الحياة هكذا نظنُّ، فيرد علينا الخبير صلى الله عليه وسلم: {يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِيبُ مَعَهُ اثنَتَان: الحِرْصُ وَطُولُ الأَمَلِ}{1}
أى لا، لأنه كلما يشيب ابن آدم يزيد حرصه على الدنيا، ويشيب معه أى يزيد أمله فيها وينسى الحميد المجيد عز وجل. وكلما يحصِّل يريد المزيد ولايشبع، ويزيدنا صلى الله عليه وسلم بياناً ويقول ضارباً المثل ومجلِّياً الأمر: {لَو كَانَ لابن آدَمَ وَادٍ من ذَهَبٍ- وليس جنيهات - لابتَغَى إلَيه ثَانياً، وَلَو كَانَ لَهُ ثَانٍ، لابتَغَى إليه ثالثاً، ولا يَملأُ جَوفَ ابن آدَمَ إلا التُّرابُ}{2}
أى ببساطة وبلغة الساعة لو جاءتنا مساعدات بكلُّ ما في خزانات الدول العربية والأجنبية من أموال وثروات فصار لكل واحد في بلدنا واد كامل مملوءاً ذهباً فلن يكتفى وسيطلب وادياً ثانياً لن يشبع الناس، لأنه مادام وصف الأفراد "ابن آدم" كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث فلن يشبع من المال ومن الحرص عليه والحرص على عمره وعلى الدنيا وما فيها من متاع، أما لو صار صفة الأفراد صفة "المؤمن" فشأنه شأنٌ آخر
والسؤال الثاني لمن يدعون أن كثرة الأموال تصلح الأحوال: هل رأيتم المجتمعات التي كثرت أموالها وأصاب أهلها تخمة المال قد انصلحت أحوالها؟ وعاش أهلوها في سعادة حقة لا ينغصها عليهم شيىء؟ أم أنهم أيضاً أصابتهم أمراض أخرى، ربما أشدُّ فتكاً وضراوة؟ أظنكم جميعاً تعرفون الإجابة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، المال وحده مفسدة
ولذلك لو رسمنا سبل إصلاح الحال على معالجة نقص المال، وتوفير الرفاهية في كل مجال؟ فستجدون أنَّ كلَّ هذه الأمور شأنها مثل طبيب أتاه مريضٌ عنده دمِّلٍ في جسمه امتلأ بالقيح والصديد، فوصف له علاجاً مسكِّناً خارجياً بمرهم، فهل هذا العلاج الظاهري سينهي الداء؟ لا،
ربما يرتاح المريض وقتاً قصيراً لكن لا يلبث أن يعاوده الداء وأشدَّ مما كان فالمسكِّنات ليست حلاً لذلك فالطبيب الناجح هو من يقتلع أصل ومكمن الداء مِنْ جسدِ مَنْ به هذا الداء، لا الذى يعالج العرض الناتج عن الداء، فكثرة المال فحسب ليست إلا علاجاً ظاهرياً ومسكنا خارجياً لأعراض مرض المجتمع فإذاً ليست السعادة ولا صلاح الحال بكثرة المال
والآن فلنأتِ إلى الصوت الثاني العالي والذي يرغي ويزبد ويصيح ليفرض على الناس الإصلاح بقوة وعلم الغرب وحضارته الحديثة وإلا وصموا معارضيهم بالتخلف والرجعية والحياة في القرون الوسطى وربما جيَّشوا لهم الجيوش الباطنة حيناً والمتلوِّنة حيناً والحقيقية حيناً آخر، ولنلج معاً هذا الرواق من كتاب الحل، هل إنهاء مشاكل البشرية وإسعاد الإنسانية هو الثقافة العلمية الحديثة؟ وقوة الحياة الغربية المتحررة
هل صدقوا في زعمهم ذلك؟ هل السعادة في العلم والحياة الغربية وما أنتجته عقولهم من قوانين وضعية ومفاهيم آنيَّة أسموها الحلم الغربى؟ ذلك النموذج الذي يحاولون فرضه اليوم على العالم كله بالترغيب أو بالترهيب، بدعوى أنهم يمنحون الخلق إكسير السعادة ومفتاح جنة الدنيا؟ بل ويضحون بأبنائهم فيرسلون الجيوش والأساطيل لتدَّك حصون الطغاة، ويحرروا الخلق من الإستبداد والفساد والدين والرجعية أيضاً
فيبيدوا الفقر وينشروا الديمقراطية والإصلاح .ولا بأس لو قتل من هؤلاء الهمج بضع عشرات أو مئات الألوف أو دمرت مدن بأكملها فهذا ثمن زهيد للحرية والحياة الجديدة، وهذا الزعم أن قوة الثقافة والحياة الغربية هو الحلُّ سيأخذ منا ردَّاً أطول لتشعب الحجج وكثرة الخداع واللجج
وأنا أجيب على هؤلاء وأقول أولاً لو أن البشرية اتبعت الثقافة العلمية الحديثة بعد تقنينها بالأخلاق الدينية، ربما تؤدي إلى السعادة، لكنها إذا أطلقت بدون قيود دينية – وهذا بيت القصيد فيما يريدون فرضه– كانت كما ترى في أماكن كثيرة سبباً رئيسياً لتدمير المجتمعات الإنسانية ولو بعد حين
{1} متفق عليه عن أنس بلفظ: ("يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ وَالأَمَلُ ).
{2} زاد المعاد في هدي خير العباد، روى فى الصحيحين
http://www.fawzyabuzeid.com
منقول من كتاب {إصلاح الأفراد والمجتمعات} للشيخ فوزي محمد أبوزيد
اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
تسعى عليك بما اشتهيت لدى الرواح إلى البكور
فاذا النفوس تقعقعت عن ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى هارون، فقال وزيره للشاعر معاتباً: طلبك الخليفة لتسرّه، فأحزنته، فنهاه هارون: أن دعه، فإنه رآنا في عمىً فكره أن يزيدنا منه.
دعونا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذى علَّمه مولاه ما ينفع أمته إلى يوم لقاه، ..يانبي الله: أو ليس إذا كثر المال تنصلح الأحوال؟ وتنتهي مشاكل الحياة هكذا نظنُّ، فيرد علينا الخبير صلى الله عليه وسلم: {يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِيبُ مَعَهُ اثنَتَان: الحِرْصُ وَطُولُ الأَمَلِ}{1}
أى لا، لأنه كلما يشيب ابن آدم يزيد حرصه على الدنيا، ويشيب معه أى يزيد أمله فيها وينسى الحميد المجيد عز وجل. وكلما يحصِّل يريد المزيد ولايشبع، ويزيدنا صلى الله عليه وسلم بياناً ويقول ضارباً المثل ومجلِّياً الأمر: {لَو كَانَ لابن آدَمَ وَادٍ من ذَهَبٍ- وليس جنيهات - لابتَغَى إلَيه ثَانياً، وَلَو كَانَ لَهُ ثَانٍ، لابتَغَى إليه ثالثاً، ولا يَملأُ جَوفَ ابن آدَمَ إلا التُّرابُ}{2}
أى ببساطة وبلغة الساعة لو جاءتنا مساعدات بكلُّ ما في خزانات الدول العربية والأجنبية من أموال وثروات فصار لكل واحد في بلدنا واد كامل مملوءاً ذهباً فلن يكتفى وسيطلب وادياً ثانياً لن يشبع الناس، لأنه مادام وصف الأفراد "ابن آدم" كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث فلن يشبع من المال ومن الحرص عليه والحرص على عمره وعلى الدنيا وما فيها من متاع، أما لو صار صفة الأفراد صفة "المؤمن" فشأنه شأنٌ آخر
والسؤال الثاني لمن يدعون أن كثرة الأموال تصلح الأحوال: هل رأيتم المجتمعات التي كثرت أموالها وأصاب أهلها تخمة المال قد انصلحت أحوالها؟ وعاش أهلوها في سعادة حقة لا ينغصها عليهم شيىء؟ أم أنهم أيضاً أصابتهم أمراض أخرى، ربما أشدُّ فتكاً وضراوة؟ أظنكم جميعاً تعرفون الإجابة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، المال وحده مفسدة
ولذلك لو رسمنا سبل إصلاح الحال على معالجة نقص المال، وتوفير الرفاهية في كل مجال؟ فستجدون أنَّ كلَّ هذه الأمور شأنها مثل طبيب أتاه مريضٌ عنده دمِّلٍ في جسمه امتلأ بالقيح والصديد، فوصف له علاجاً مسكِّناً خارجياً بمرهم، فهل هذا العلاج الظاهري سينهي الداء؟ لا،
ربما يرتاح المريض وقتاً قصيراً لكن لا يلبث أن يعاوده الداء وأشدَّ مما كان فالمسكِّنات ليست حلاً لذلك فالطبيب الناجح هو من يقتلع أصل ومكمن الداء مِنْ جسدِ مَنْ به هذا الداء، لا الذى يعالج العرض الناتج عن الداء، فكثرة المال فحسب ليست إلا علاجاً ظاهرياً ومسكنا خارجياً لأعراض مرض المجتمع فإذاً ليست السعادة ولا صلاح الحال بكثرة المال
والآن فلنأتِ إلى الصوت الثاني العالي والذي يرغي ويزبد ويصيح ليفرض على الناس الإصلاح بقوة وعلم الغرب وحضارته الحديثة وإلا وصموا معارضيهم بالتخلف والرجعية والحياة في القرون الوسطى وربما جيَّشوا لهم الجيوش الباطنة حيناً والمتلوِّنة حيناً والحقيقية حيناً آخر، ولنلج معاً هذا الرواق من كتاب الحل، هل إنهاء مشاكل البشرية وإسعاد الإنسانية هو الثقافة العلمية الحديثة؟ وقوة الحياة الغربية المتحررة
هل صدقوا في زعمهم ذلك؟ هل السعادة في العلم والحياة الغربية وما أنتجته عقولهم من قوانين وضعية ومفاهيم آنيَّة أسموها الحلم الغربى؟ ذلك النموذج الذي يحاولون فرضه اليوم على العالم كله بالترغيب أو بالترهيب، بدعوى أنهم يمنحون الخلق إكسير السعادة ومفتاح جنة الدنيا؟ بل ويضحون بأبنائهم فيرسلون الجيوش والأساطيل لتدَّك حصون الطغاة، ويحرروا الخلق من الإستبداد والفساد والدين والرجعية أيضاً
فيبيدوا الفقر وينشروا الديمقراطية والإصلاح .ولا بأس لو قتل من هؤلاء الهمج بضع عشرات أو مئات الألوف أو دمرت مدن بأكملها فهذا ثمن زهيد للحرية والحياة الجديدة، وهذا الزعم أن قوة الثقافة والحياة الغربية هو الحلُّ سيأخذ منا ردَّاً أطول لتشعب الحجج وكثرة الخداع واللجج
وأنا أجيب على هؤلاء وأقول أولاً لو أن البشرية اتبعت الثقافة العلمية الحديثة بعد تقنينها بالأخلاق الدينية، ربما تؤدي إلى السعادة، لكنها إذا أطلقت بدون قيود دينية – وهذا بيت القصيد فيما يريدون فرضه– كانت كما ترى في أماكن كثيرة سبباً رئيسياً لتدمير المجتمعات الإنسانية ولو بعد حين
{1} متفق عليه عن أنس بلفظ: ("يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ وَالأَمَلُ ).
{2} زاد المعاد في هدي خير العباد، روى فى الصحيحين
http://www.fawzyabuzeid.com
منقول من كتاب {إصلاح الأفراد والمجتمعات} للشيخ فوزي محمد أبوزيد
اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق