أمثلة على مسائل فقهية خالف السلفية فيها السلفَ بحجة أن قول السلف مخالف للنصوص
المثال الثاني: زواج المحلل: اختلف الفقهاء في صحة حكم زواج التحليل([1])، فذهب الحنابلة والمالكية إلى بطلانه بمجرد قصد التحليل ولو لم يُشترط في العقد أن القصد منه تحليل المرأة المطلقة ثلاثا إلى زوجها الأول([2])، وذهب الشافعية([3]) إلى أنه إن لم يُشترط في العقد التحليل، فلا يضر مجرد القصد إلى ذلك وإنما يكره، وإذا اشترط التحليل في العقد بطل النكاح على تفصيل عندهم([4])، وعند الحنفية خلاف وتفصيل، خلاصته: أن المحلل إن شرط الإحلال بالقول، وأنه يتزوجها لذلك، وكان الشرط منها فهو نكاح صحيح عند أبي حنيفة وزفر، وتحل للأول ويكره للثاني والأول، وقال أبو يوسف النكاح الثاني فاسد، وإن وطئها لم تحل للأول، وقال محمد النكاح الثاني صحيح ولا تحل للأول([5]).
هذه خلاصة مذاهب الفقهاء في المسألة دون تشنيع منهم على بعضهم البعض فيما اختار كل فريق منهم، بل إن الشافعية إنما كرهوه خروجا من خلاف المالكية فقال الخطيب الشربيني: فإن تواطأ العاقدان على شيء من ذلك قبل العقد، ثم عقدا بذلك القصد بلا شرط، كُره خروجا من خلاف من أبطله"([6]).
ولكن ابن تيمية وابن القيم تعصبوا لمذهب الحنابلة في هذه المسألة، إذ لم يكتفوا بأن اختارا قولهم ونصراه، بل شنّعا على أبي حنيفة، فقال ابن تيمية عن قول أبي حنيفة هنا إنه "كان من أكبر المنكرات عند التابعين ومن بعدهم، وأنه قول محدث مخالف لما عليه الجماعة"([7]) وادعى أن قوله مخالف للكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأن جواز التحيل أفضى إلى مفاسد كثيرة، وأطال في ذلك جدا([8])، وتبعه ابن القيم([9]) على ذلك، فذكر أن نكاح المحلل هو من الحيل المحرمة، وهو من قبيل احتيال اليهود يوم السبت، وأنه من قبيل استحلال السحت باسم الهدية واستحلال الربا باسم البيع ونحو ذلك، ولم يكتف بذلك حتى جعل نكاح المحلل استحلال للزنا باسم النكاح، إلى أن قال: "فيالله العجب أي فرق في نفس الامر بين الزنا وبين هذا؟ نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبن بل ذهب إلى أبعد من ذلك"([10])اهـ
فانظر إلى من يوجب اتباع السلف، كيف يتهمهم باستحلال الزنا، ومخالفة الكتاب والسنة والإجماع والقياس...؟!
فإن قلتم: إن ابن تيمية لم يهاجم السلف كلهم، وإنما قصد أبا حنيفة فحسب.
قلنا: أولا: إن من يسميهم ابن تيمية الخلف، وهم هنا مقلدة المذاهب كالمالكية الذين خالفوا أبا حنيفة في هذه المسألة لم ينكروا عليه هذا الإنكار، فكان من باب أولى أن لا ينكر عليه ابن تيمية وابن القيم باعتبار أنهما يدعيان محبة السلف والاقتداء بهم.
ثانيا: نعم، ابن تيمية لم يهاجم السلف كلهم هنا، وإنما قصد أبا حنيفة فحسب كما قلتم، ولكن أبا حنيفة بمفرده يصبح حجة عندما يقول: لله يد، على ما نُقل عنه، وكذلك عندما يقول بمنع التوسل، على ما نُقل عنه ـ ولا يثبت عنه النقل في كلا المسألتين وسوف نبين ذلك في موضعه ـ فهنا ترى السلفية يعضون على قول أبي حنيفة بالنواجذ، ويثنون عليه ويمدحونه ويجعلون قوله قولا للسلف عامة وينكرون على من يخالفه؛ وينسون ما قالوه عنه في غير ذلك الموضوع كمسألة المحلل هنا التي كالوا له فيها شتى التهم.
إذن اتباع السلف أمرٌ انتقائي عند ابن تيمية وأتباعه، فما يروى عن السلف ويروق لابن تيمية وأتباعه أخذوه وأثنوا على قائله وأنكروا على مخالفه بحجة مخالفته للسلف، وما لم يرق لهم تأولوه أو أنكروه وأنكروا على من يأخذ به وشنعوا على قائله حتى ولو كان من السلف، كهذا المثال وأمثلة كثيرة ستأتي تباعا إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
([1]) زواج التحليل: هو أن يتزوج الرجل امرأة طُلقت ثلاثا بشرط أنه متى أحلها للأول طلقها، أو متى أحلها للأول فلا نكاح بينهما، أو من غير شرط ولكن يتفقا على ذلك قبل العقد. انظر كشاف القناع 5/94.
([2]) انظر: المغني لابن قدامة 7/ 137، كشاف القناع 5/94، الفواكه الدواني 2/28، حاشية الدسوقي 2/258.
([3]) تحفة المحتاج 7/312، نهاية المحتاج 6/282.
([4]) فإذا تزوجها المحلل على أنه إذا وطئها طلقها ففيه قولان للشافعي: أحدهما: إنه باطل، والثاني: إنه يصح لأن النكاح مطلق؛ وإذا شرط أنه إذا أحلها للأول فلا نكاح بينها بطل النكاح قولا واحدا، تحفة المحتاج 7/312، نهاية المحتاج 6/282، مغني المحتاج 4/300.
([5]) المبسوط 6/9، بدائع الصنائع 3/187
([6]) مغني المحتاج 4/300
([7]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية - (6 / 16)
([8]) الفتاوى الكبرى - (6 / 20 إلى 321).
([9]) إعلام الموقعين - (3 / 114) دار الجيل.
([10]) إعلام الموقعين - (3 / 117)
المثال الثاني: زواج المحلل: اختلف الفقهاء في صحة حكم زواج التحليل([1])، فذهب الحنابلة والمالكية إلى بطلانه بمجرد قصد التحليل ولو لم يُشترط في العقد أن القصد منه تحليل المرأة المطلقة ثلاثا إلى زوجها الأول([2])، وذهب الشافعية([3]) إلى أنه إن لم يُشترط في العقد التحليل، فلا يضر مجرد القصد إلى ذلك وإنما يكره، وإذا اشترط التحليل في العقد بطل النكاح على تفصيل عندهم([4])، وعند الحنفية خلاف وتفصيل، خلاصته: أن المحلل إن شرط الإحلال بالقول، وأنه يتزوجها لذلك، وكان الشرط منها فهو نكاح صحيح عند أبي حنيفة وزفر، وتحل للأول ويكره للثاني والأول، وقال أبو يوسف النكاح الثاني فاسد، وإن وطئها لم تحل للأول، وقال محمد النكاح الثاني صحيح ولا تحل للأول([5]).
هذه خلاصة مذاهب الفقهاء في المسألة دون تشنيع منهم على بعضهم البعض فيما اختار كل فريق منهم، بل إن الشافعية إنما كرهوه خروجا من خلاف المالكية فقال الخطيب الشربيني: فإن تواطأ العاقدان على شيء من ذلك قبل العقد، ثم عقدا بذلك القصد بلا شرط، كُره خروجا من خلاف من أبطله"([6]).
ولكن ابن تيمية وابن القيم تعصبوا لمذهب الحنابلة في هذه المسألة، إذ لم يكتفوا بأن اختارا قولهم ونصراه، بل شنّعا على أبي حنيفة، فقال ابن تيمية عن قول أبي حنيفة هنا إنه "كان من أكبر المنكرات عند التابعين ومن بعدهم، وأنه قول محدث مخالف لما عليه الجماعة"([7]) وادعى أن قوله مخالف للكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأن جواز التحيل أفضى إلى مفاسد كثيرة، وأطال في ذلك جدا([8])، وتبعه ابن القيم([9]) على ذلك، فذكر أن نكاح المحلل هو من الحيل المحرمة، وهو من قبيل احتيال اليهود يوم السبت، وأنه من قبيل استحلال السحت باسم الهدية واستحلال الربا باسم البيع ونحو ذلك، ولم يكتف بذلك حتى جعل نكاح المحلل استحلال للزنا باسم النكاح، إلى أن قال: "فيالله العجب أي فرق في نفس الامر بين الزنا وبين هذا؟ نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبن بل ذهب إلى أبعد من ذلك"([10])اهـ
فانظر إلى من يوجب اتباع السلف، كيف يتهمهم باستحلال الزنا، ومخالفة الكتاب والسنة والإجماع والقياس...؟!
فإن قلتم: إن ابن تيمية لم يهاجم السلف كلهم، وإنما قصد أبا حنيفة فحسب.
قلنا: أولا: إن من يسميهم ابن تيمية الخلف، وهم هنا مقلدة المذاهب كالمالكية الذين خالفوا أبا حنيفة في هذه المسألة لم ينكروا عليه هذا الإنكار، فكان من باب أولى أن لا ينكر عليه ابن تيمية وابن القيم باعتبار أنهما يدعيان محبة السلف والاقتداء بهم.
ثانيا: نعم، ابن تيمية لم يهاجم السلف كلهم هنا، وإنما قصد أبا حنيفة فحسب كما قلتم، ولكن أبا حنيفة بمفرده يصبح حجة عندما يقول: لله يد، على ما نُقل عنه، وكذلك عندما يقول بمنع التوسل، على ما نُقل عنه ـ ولا يثبت عنه النقل في كلا المسألتين وسوف نبين ذلك في موضعه ـ فهنا ترى السلفية يعضون على قول أبي حنيفة بالنواجذ، ويثنون عليه ويمدحونه ويجعلون قوله قولا للسلف عامة وينكرون على من يخالفه؛ وينسون ما قالوه عنه في غير ذلك الموضوع كمسألة المحلل هنا التي كالوا له فيها شتى التهم.
إذن اتباع السلف أمرٌ انتقائي عند ابن تيمية وأتباعه، فما يروى عن السلف ويروق لابن تيمية وأتباعه أخذوه وأثنوا على قائله وأنكروا على مخالفه بحجة مخالفته للسلف، وما لم يرق لهم تأولوه أو أنكروه وأنكروا على من يأخذ به وشنعوا على قائله حتى ولو كان من السلف، كهذا المثال وأمثلة كثيرة ستأتي تباعا إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) زواج التحليل: هو أن يتزوج الرجل امرأة طُلقت ثلاثا بشرط أنه متى أحلها للأول طلقها، أو متى أحلها للأول فلا نكاح بينهما، أو من غير شرط ولكن يتفقا على ذلك قبل العقد. انظر كشاف القناع 5/94.
([2]) انظر: المغني لابن قدامة 7/ 137، كشاف القناع 5/94، الفواكه الدواني 2/28، حاشية الدسوقي 2/258.
([3]) تحفة المحتاج 7/312، نهاية المحتاج 6/282.
([4]) فإذا تزوجها المحلل على أنه إذا وطئها طلقها ففيه قولان للشافعي: أحدهما: إنه باطل، والثاني: إنه يصح لأن النكاح مطلق؛ وإذا شرط أنه إذا أحلها للأول فلا نكاح بينها بطل النكاح قولا واحدا، تحفة المحتاج 7/312، نهاية المحتاج 6/282، مغني المحتاج 4/300.
([5]) المبسوط 6/9، بدائع الصنائع 3/187
([6]) مغني المحتاج 4/300
([7]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية - (6 / 16)
([8]) الفتاوى الكبرى - (6 / 20 إلى 321).
([9]) إعلام الموقعين - (3 / 114) دار الجيل.
([10]) إعلام الموقعين - (3 / 117)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق