فَضْلُهُ صلي الله عليه وسلم عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ وأول ما يدل على ذلك: أوليته ومعناها : خَلْقُ نَفْسِهِ قبل خلق نفوسهم ومما يدل على أوليَّته ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله عزَّ وجلَّ كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)[1] ومن جملة ما كتب في الذكر وهو أم الكتاب (أن محمدًا خاتم النبيين) [2] وفي رواية (إني عند الله خاتم النبيين وإن آدم منجدل في طينته)[3]وفي رواية أنه قيل له (متى وجبت لك النبوة؟ فقال: وآدم بين الروح والجسد)[4] وفي رواية (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث)[5] من ذلك: أنه أخذ له الميثاق على الأنبياء {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} فجعل الأنبياء كأتباع له وألهمهم الانقياد فلو أدركوه وَجَبَ عليهم اتِّباعه وقد قال عليه الصلاة والسلام (لو كان موسى حيًّا ما وَسِعَهُ إلاَّ اتِّباعي)[6] وقدَّم ذِكْرَهُ على الأنبياء فقال سبحانه{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ}
وخاطب كل نبيٍّ باسمه فقال تعالي {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ}{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ}{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ} {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ} { يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ} {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ}{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ }ولم يخاطب نبيَّنا بالاسم تعظيماً له بل قال{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} فلما ذكر اسمه للتعريف قرنه بذكر الرسالة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وقال {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ} ولما ذكره مع الخليل ذكر الخليل باسمه وذكره باللقب {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ} وأخبر الله أن الأمم كانوا يخاطبون أنبياءهم بأسمائهم كقولهم {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} {يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا} {يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ونَهَى أمَّتَه أن يخاطبوه باسمه {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً} عن ابن عباس في قوله تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً} قال(لا تقولوا يا محمد قولوا: يا رسول الله)
وقد كانت الأنبياء يجادلون أممهم عن أنفسهم يقول قوم نوح {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}فقال مدافعاً عن نفسه {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ}وقال قوم هود {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} فقال {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ}وقال فرعون لموسى {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} فقال موسى {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} ولكن الله تولَّى المجادلة عن نبيِّه فلما قالوا هو شاعر قال الله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}ولما قالوا: كاهن قال الله {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} ولما قالوا:ضال قال الله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ}ولما قالوا:مجنون قال الله {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ولما قالوا {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ}قال في الرد عليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} وقال {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}ولما قالوا{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}قال في الرَّد عليهم{لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} وأقسم الحقُّ بحياته وإنما يقع القسم بالمعظَّم عن ابن عباس قال (ما خلق الله وما ذرأ نفسًا هي أكرم من مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وما سمعتُ الله أقسم بحياة أَحَدٍ غيره فقال{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال ابن عقيل: وأعظم من قوله لموسى{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وقوله {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} المعنى: أقسم لا بالبلد، فإن أقسمت بالبلد فلأنك فيه (انتهى)
أقول: وظهر لي معنىً آخر وهو أن الحقَّ تبارك وتعالى يقول{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} أي أن هذا البلد - ولو كان عظيماً - فلا أقسم به لأنك حَلَلْتَ به يا مُحَمَّد وأنت أعظم منه فأنا أقسم بك أنت إذ كيف أقسم بالعظيم وفيه الأعظم والأكرم وقد أشار الله إلى أحوال الأنبياء ثم ذكر التوبة عليهم قال الله في حق آدم{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وقال في حقِّ موسى {إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} ثم قال {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} وقال في حقِّ داود {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}ثم قال {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} وقال {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} ثم قال {ثُمَّ أَنَابَ} وأخبر تعالى بغفران ذنب نبيِّنا من غير أن يذكر له ذنبًا فقال {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقد كان الأنبياء يطلبون تحقيق بعض المراتب والكمالات لأنفسهم بخلاف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنالله مَنَّ عليه بتلك المقامات وتفضل بها عليه من غير طلب وهذا بابٌ من العلم جليل القدر وفيه من الفضل ما شرح الله به صدري وَسَأُورِدُ ما وَرَدَ على قلبي من تلك الأمثلة:
فإن كان إبراهيم كسَّر الأصنام فقد رَمَى نبيُّنا هُبل من أعلى الكعبة ثم أشار إلى ثلاثمائة وستين صنماً فوقعت يوم الفتح كما ثبت في الصحيح وإن كان هود نُصِرَ على قومه بالدَّبور فقد نُصِرَ نبيُّنا رسول الله بالصَّبا فمزقت أعداءه يوم الخندق وإن كان لصالح ناقة فقد سجدتْ الإبلُ لنبيِّنارسول الله كما ثبت ذلك في السنة المطهَّرة وإن أُعطي يوسف نصف الحسن فقد أُعطي صلى اللهعليه وسلم الحُسن كلَّه كما جاء في الحديث وإن كان الحجر انْفَجَرَ لموسى فقد نَبَعَ الماء من بين أصابع نبيِّنا رسول الله وهو أعجب لأنه لا غرابة في خروج الماء من الحجارة بل الشأن في خروج الماء من بين لحم ودم وإن كان لموسى عصا فإن خوار الجذع وحنينه أعجب من ذلك وقصة حنين الجذع ثابتة في الصحيح وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب عند جِذْعٍ جُعل له فلما بُنيَ له المنبر ترك الجذع فحنَّ الجذع إليه حتى كان يُسْمع له أنين كأنين الثَّكلى وإن كانت الجبال سبَّحت مع داود، فقد ثبت أن الحَصَى سبَّحت في كفِّ نبيِّنا
وإن كان سليمان أُعطيَ مُلْكَ الدنيا فقد جِئَ لنبيِّنا بمفاتيح خزائن الأرض فأباها وإن كان الريح سُخِّرَتْ لسليمان غدوها شهر ورواحها شهر فنبيُّنا سار إلى بيت المقدس مسيرة شهر في بعض ليلة وسار الرُّعبُ بين يديه مسيرة شهر كما قال في الحديث الصحيح(نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)[7]وعُرج به مسيرة خمسين ألف سنة إلى العرش وإن كان سليمان فهم كلام الطير فقد فَهِمَ نبيُّنا كلامَ البعير الذي جاء يشتكي صاحبه وفهم كلام الحجر لمَّا سلَّم عليه وغير ذلك وإن كانت الجن سُخرت لسليمان فقد جاءت إلى نبيِّنا طائفةٌ من الجنِّ مؤمنة به كما ثبت ذلك في القرآن وقد كان سليمان يُصَفِّدُ مَنْ عَصَاهُ منهم فلما تفلَّتَ عفريتٌ على نبيِّنا تمكَّن منه وأسره ثم أطلقه وقال(لولا أخي سليمان قال: ربِّ هَبْ لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدى لربطته في سارية من سواري المسجد يلعب به الصبيان) أو كما قال وهو في الصحيح وقد كانت الجن أعواناً لسليمان يخدمونه ونبيُّنا أعوانه الملائكة يقاتلون بين يديه ويدفعون أعداءه كما ثبت ذلك في بدر وحُنين وإن كان عيسى يخبر بالغيوب فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كثير من ذلك مع كثير من الناس
[1] رواه الإمام مسلم [2] أخرجه مسلم[3] رواه أحمد والبيهقى والحاكم وقال صحيح الإسناد [4] رواه الترمذي وحسنه [5] قال السخاوي: رواه أبو نعيم في الدلائل وابن أبي حاتم في تفسيره وابن لال ومن طريقه عن أبي هريرة مرفوعًا وله شاهدٌ صححه الحاكم وآخر في صحيحي ابن حبان والحاكم وثالث عند الترمذي وقال عنه حسن صحيح [6] رواه أحمد والبيهقى في شعب الإيمان [7] البخاري من حديث جابر
منقول من كتاب [الكمالات المحمدية]
للمطالعة أو التحميل مجانا أضغط :
الكمالات المحمدية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق