قال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ( أصول الفقه ) :
هذا و من المقررات الفقهية أن سبب النص العام لا يعد مخصصا له ، بل إن العام على عمومه من غير نظر إلى السبب الخاص الذي جاء النص مقترنا به ، و لذا يقول الأصوليون : " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " ، لأن الحجية في النصوص لا في أسبابها ، و لا في بواعثها ، و قد تكون أسباب النزول طريقا لتفسيرها ، و لكنها لا تصلح طريقا لتخصيصها . أهـ
" العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " وهذه القاعدة متفق عليها عند جماهير أهل العلم ولم يخالف فيها إلا القليل .
النَّصُّ الشَّرْعِيّ،كتابا وسنة، حاكم ومتعالٍ على الظروف والأمكنة والبيئة، لأنه يخاطب الحاضر، والمستقبل، ولذلك لم يشأ النص أن يتضمن الإشارة المباشرة إلى تفاصيل تلك الظروف، ولا ربط مضامينه بها البتة .
القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ
الأسباب في نظرنا إذا كانت تاريخية فإنها تعني أن النص الذي ارتبط ورودها ونـزولها بها يجب أن يكون تاريخياً أيضاً ، ومعروف أن التاريخ أحداث في الماضي، لا ينبغي إسقاطها على الحاضر، وليس ذلك النص الشرعي ، فإنه نص للماضي وللحاضر وللمستقبل ،ولا يحكمها أحداث تاريخية معينة بل فوق كل الأحداث والظروف، النص الشرعي يمثل خطاب الإله الموجه إلى العالم القائم وقت نـزوله ، وإلى العالم الذي سيأتي من بعده وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فأسباب النـزول نماذج ودلائل وأمارات على أسباب حقيقية ، يتوقف إدراكها على إدراك هذا النموذج ، مما يعني ضرورة النظر إلى الأسباب على أنها أدوات معينات ومساعدات على حسن فهم النص الشرعي ، وإدراك مراميه ، ومغازيه وأبعاده، ورحم الله الإمام الدهلوي الذي كشف النقاب عن هذا الأمر في كتابه القيم ( الفوز الكبير في أصول التفسير : 31 وما بعدها ).
معرفة أسباب النزول تعين على فهم الآيات…..(ابن تيمية).
سبب النزول ليس سبباً في النزول بل هو لمجرد الاستدلال…..(الزركشي).
لكن عبارة الزركشي في البرهان تذكرنا من جهة بأن الإمام علي كرم الله وجهه كان يسميها مناسبات النزول وليس أسباب النزول، والفرق بين التسميتين لا يخفى على أهله. ونلفت الأنظار إلى أن قولنا بوجود أسباب لنزول الآيات يقتضي لزوماً عدم نزول آية إلا بوجود سببها، وهذا في أحسن الأحوال سوء أدب مع الله، ومع مقاصد تنزيل الرسالات التي تعتبر الأسباب الإلهية الأولى والأخيرة للنزول
إذا ورد الأمر العام على سبب خاص فإن ذلك لا يخصصه على الصحيح لكن غذا دل السياق ودلت القرائن على تخصيص العام فإن ذلك يخصصه
قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه ، فيما نقله عنه تاج الدين السبكي رحمه الله ، فقال : " يجب أن يتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم , وبين ورود العام على سبب ، ولا تجري مجرى واحد , فإن مجرد ورود العام على سبب لا يخصصه ، وأما السياق والقرائن فإنها الدالة على المراد ، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات . قال : فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في مواضع لا تحصي , وانظر قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس من البر الصيام في السفر ) من أي من القبيلين هو منزله عليه " ، قلت [ أي السبكي ] : ومن النظر إلي السياق : ما في " فروع الطلاق " من " الرافعي " : أنه لو قال لزوجته : إن علمت من أختي شيئًا ، ولم تقوليه : فأنت طالق . فتنصرف إلى ما يوجب ريبة , ويوهم فاحشة ، دون ما لا يقصد العلم به كالأكل والشراب " انتهى من " الأشباه والنظائر " للسبكي (2/135) .
الثاني : أن اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب ، فيما إذا لم يكن هناك معارض , أما إذا وجد معارض ، فينبغي حمل اللفظ على خصوص السبب , وفي ذلك يقول السبكي رحمه الله تعالى في " الأشباه والنظائر " (2/136) : " إذا عرفت أن الأرجح عندنا اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب ، فلا نعتقد أن ينسحب العموم في كل ما ورد وصدر ؛ بل إنما نعمم حيث لا معارض .
وفي المعارض أمثلة : منها : حديث النهي عن قتل النساء والصبيان ، أخذ أبو حنيفة بعمومه وقال : المرأة المرتدة لا تقتل ، وخصصناه نحن بسببه = فإنه ورد في امرأة مقتولة مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فنهى إذا ذاك عن قتل النساء والصبيان = لحديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وغيره من الأدلة .
ومنها : حديث أنس رضي الله عنه : ( ليس من البر الصيام في السفر ) : ورد في رجل قد ظلل عليه من جهد ما وجد ، وقد تقدم الكلام فيه " انتهى .
ثم اختتم السبكي رحمه الله الكلام على هذه القاعدة بتنبيه يوضح محل الوفاق ومحل الخلاف في اعتبار هذه القاعدة ، فقال " تنبيه : قدمنا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والخلاف في ذلك : إذا لم تكن هناك قرينة تعميم ، فإن كانت فالقول بالتعميم ظاهر كل الظهور ، بل لا ينبغي أن يكون في التعميم خلاف " انتهى من " الأشباه والنظائر " (2/136) .
من هنا يتضح أن استدلال أهل العلم بقوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الحشر/7 على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمر , وترك ما نهى عنه في كل نهي – ومن ذلك البدعة – استدلال في محله ، ولا يتعارض هذا مع كون الآية وردت في خصوص الفيء .
وكذلك استدلالهم بقوله تعالى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة /195 على النهي عن إيراد النفس موارد الهلكة والعطب استدلال في محله ، وإن كانت التهلكة المقصود في الآية هي ترك الجهاد وعدم بذل المال في سبيل الله تعالى , وإلا فهل يقول عاقل ، فضلا عن عالم إن ترك النفقة والجهاد إلقاء بالنفس في التهلكة منهي عنه في الآية الكريمة , وأما ركوب البحر وقت هياجه مع عدم أخذ الأسباب ، أو التردي من شاهق = ليس من قبيل الإلقاء بالنفس في التهلكة ، ولا يدخل تحت عموم الآية الكريمة ؟! هذا مما لا يتصور .
ان القاعدة لا تعني جميع أسبابالنزول فإن من أسباب التزول ما هو خاص
بصاحب السبب لا يتعداه لغيره فمثلاالآيات التي نزلت بالثلاثة الذين تخلفوا عن
غزوة تبوك
الشريعة عامة، فلا يُعقَل حصر نصوصها في أسباب محدودة وأشخاص معدودين، وإنما يكون الأصل عموم أحكامها، إلا ما دلَّ دليل على خصوصيته، فإنه يقصر على ما جاء خاصًّا فيه.
أن عامةَ النصوص نحو آية: الظِّهار، واللِّعان، والقَذْف، والزِّنا، والسَّرقة، نزَلَتْ عند وقوع الحوادثِ لأشخاص معلومين، فلو اختصت بالحوادث لم تكن الأحكامُ كلها ثابتةً بالكتاب والسنَّة تنصيصًا، إلا في حقِّ أقوام مخصوصين، وهذا محالٌ عقلاً، ومخالفٌ لإجماع الأمَّة، والمعقول يدل عليه: وهو أن اللفظَ العامَّ يوجب العملَ بعمومه، وإنما يترك بدليل التخصيص)[6]، كل هذا يدل على أن (السبب غير مُسقِط للعموم)
الإحكام؛ للآمدي (2/348)
قال الشوكاني (إرشاد الفحول ص (133).: (إذا ورَد العامُّ على سببٍ خاصٍّ، فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وحكَوْا ذلك إجماعًا)
عن أبي هريرة قال: لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جُنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيتُ الرَّحْل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد، فقال: ((أين كنت يا أبا هِرٍّ؟))، فقلت له، فقال: ((سبحان الله يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس))[30].
قول النبي صلى الله عليه وسلم بشأن فعل أبي هريرة: ((المؤمن لا ينجس))، و(العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب)؛ فألفاظ الحديث عامة؛ فأي مسلمٍ طاهرٌ ليس بنجس.
عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أُبْدِعَ بي، فاحملني، فقال: ((ما عندي))، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أدله على مَن يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير، فله مِثل أجر فاعله))[29]، الشاهد: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير، فله مثل أجر فاعله)) بشأن هذا الصحابي الذي دل رجلاً على مَن يعطيه راحلة تحمله، و(العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب)؛ فألفاظ الحديث عامة؛ فكل من أرشد إلى خير، فله مثل أجر مَن فعله.
قول النبي: ((والله لأن يهدي الله بك رجلاً، خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم))، قاله لعلي - رضي الله عنه - عندما بعثه لخيبر؛ فالحديث إن كان موجهًا لعلي - رضي الله عنه - من ناحية السبب، لكنه عام من جهة المعنى؛ فعلى جميع الغزاة أن يتريَّثوا ولا يعاجلوا بالقتال، وأن يجتهدوا بالدعوة بالموعظة الحسنة، فلعل الناس تترك القتال ويدخلون في الإسلام، وإن كان الحديث في شأن هداية الكفار من جهة السبب، لكنه عام من جهة اللفظ، فيشمل هداية الكفار والمسلمين.
جاء ناسٌ من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم، قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة، فأبطؤوا عنه، حتى رُئِي ذلك في وجهه، قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بُصرَّة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرِف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، فعُمل بها بعده، كتب له مثل أجر مَن عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعُمل بها بعده، كتب عليه مثلُ وِزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء))[26].
فهذا الحديث ورد في مناسبة معينة، ولكن لفظه عام، فهنا العبرة بعموم اللفظ؛ أي: إنه يشمل كل مَن دعا إلى سنة حسنة بفعله أو قوله، وليست العبرة بخصوص السبب في حق هذا الأنصاري الذي بدأ بالصدقة.
عن جابر، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هاتان ابنتا سعد، قُتل أبوهما معك يوم أُحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدَعْ لهما شيئًا من ماله، ولا ينكحان إلا بمال، فقال: ((يقضي الله في ذلك))، فنزلت آية المواريث، فدعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمهما، فقال: ((أعطِ ابنتَيْ سعد الثلثين، وأعطِ أمهما الثُّمُن، وما بقي فهو لك))[25]، فلا عبرة بكون الحكم ورد بخصوص توريث ابنتي سعد.
عن أبي سعيد، قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الماء طَهور لا ينجِّسه شيء))[24]؛ فالماء طَهور لا ينجسه شيء لا يختص ببئر بضاعة فقط، رغم أن السؤال كان عن بئر بضاعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق